يعتبر الفنزويلي سيمون بوليفار واحداً من أقوى الشخصيات في التاريخ السياسي العالمي، حيث قاد حركة الاستقلال لـ6 دول في أمريكا الجنوبية، وبطريقة أشبه بالخيال الدرامي.
ومع ذلك التاريخ الحافل، للأسف الكثير من الناس لاسيما الذين يعيشون خارج القارة اللاتينية لا يعرفون من هو سيمون بوليفار.
من هو سيمون بوليفار؟
وُلد سيمون بوليفار لعائلة ثرية في العاصمة الفنزويلية كاراكاس في 24 يوليو/تموز 1783، توفي والده وهو لا يزال في الـ3 من عمره، وتوفيت أمه أيضاً وهو بعمر الـ6.
كانت نشأة سيمون مميزة بعض الشيء، إذ تبناه عمه وخصص له مدرساً مشهوراً، وهو سيمون رودريغز، لتعريفه بكتّاب "عصر التنوير"، أمثال فرانسوا ماري آروويه المعروف باسم فولتير، وجان جاك روسو، اللذين كانا مصدر إلهام للثورة الفرنسية.
في 1796 فرّ رودريغز من فنزويلا بعد أن تمّ الاشتباه به للتآمر من أجل الإطاحة بالحكم الاستعماري الإسباني.
وفي سن الـ16، تم إرسال بوليفار إلى إسبانيا لإكمال تعليمه، التقى خلال دراسته بنائب الملك، وأشاد أمامه بجرأة الثورة الفرنسية واستقلال أمريكا، وهو ما جعل المسؤولين الإسبان متوترين منه، وفقاً لما ذكره موقع Militaryheritage.
وفي مدريد، وقع بوليفار في حب ماريا تيريزا، ابنة نبيل إسباني، وتزوجها، لكن بعد عامٍ واحدٍ فقط ماتت عروسه الشابة بالحمى الصفراء، حينها كان بوليفار في التاسعة عشرة من عمره، ولم يتزوج بعدها قط، رغم علاقاته المتعددة.
ويؤمن بعض المؤرخين أن ماريا تيريزا لو كانت ظلت حية، كان بوليفار ليستقر في حياته المريحة واعتنائه بأراضيه، بدلاً من ذلك، عاد إلى أوروبا كسيرَ القلب باحثاً عن هدف، وجده في باريس في قراءته بنهم للوك وروسو وفولتير.
الجملة التي غيّرت مسار حياته
وهو في باريس التقى بوليفار بعالم الطبيعة العظيم ألكسندر فون همبولت الذي كان قد عاد لتوه من أمريكا الجنوبية التي قضى فيها 5 سنوات متتالية.
خلال إحدى جلساتهما روى همبولت لبوليفار عن الموارد الطبيعية الهائلة التي تمتلكها القارة اللاتينية، ووصلا إلى فكرة أنّ هذه الدول ينتظرها مصير لامع بمجرد أن يتحرر الشعب من الاحتلال.
وقال همبولت لبوليفار: "أعتقد أنّ بلدك فنزويلا مستعد لنيل استقلاله، لكنني لا أرى الذي يمكنه تحقيق ذلك".
لقد كان تعليقاً مصيرياً في حياة بوليفار الذي بقي يتذكره حتى بقية حياته، وقرر بعده أن يكون هو هذا الشخص الذي يحرر بلاده من الاستعمار الإسباني.
العودة إلى فنزويلا وبدء السعي لنيل الاستقلال
عاد بوليفار إلى فنزويلا في 1804، وغاص في عالم المصالح المتشابكة في أمريكا الجنوبية، ساعياً إلى استقلال إسبانيا.
ونجح بوليفار ورفاقه في الإطاحة مؤقتاً بالإسبان مرتين من فنزويلا لمدة قصيرة، وأسس الجمهوريتين الأولى والثانية قصيرتي العمر في فنزويلا، وفقاً لما ذكره موقع HowStuffWorks الأمريكي.
لكن مع فشل المحاولات الأولى للحكم الذاتي، فر بوليفار إلى جامايكا، حيث كتب "رسالة من جامايكا"، يطلب فيها مساعدة بريطانيا ويشرح رؤيته لأمريكا لاتينية موحدة من المكسيك إلى تشيلي.
وكتب بوليفار، غير متأثر بالخسائر التي واجهها: "إن الصلات التي كانت تربطنا بإسبانيا قُطعت، ومن يحبون الحرية سيصبحون في نهاية المطاف أحراراً، ما نحن إلا نموذج مصغر للجنس البشري، نحن عالم منفصل، محدودٌ بمحيطين، صغارٌ في الفنون والعلوم، لكن عمرنا يناهز عمر المجتمع الإنساني، لسنا هنوداً ولا أوروبيين، لكننا جزءٌ من كليهما".
محرر العبيد
وحين حرمه البريطانيون من المساعدة، لجأ إلى هاييتي التي حصلت مؤخراً على استقلالها من فرنسا في 1804، وقدم الرئيس الهاييتي ألكسندر بيتيون أكواماً من الأسلحة والأموال لبوليفار في مقابل وعدٍ بأن يلغي بوليفار العبودية في كل مستعمرة إسبانية يحررها.
ماري أرانا، الصحفية والكاتبة ومؤلفة كتاب "بوليفار: المحرر الأمريكي"، ترى هذه اللحظة نقطة تحول، وتشرح أرانا لشبكة History News Network أن الحروب الأمريكية اللاتينية للاستقلال بدأت مثل الحرب الثورية في أمريكا الشمالية، فقد بدأها البيض الأثرياء الذين سئموا دفع الضرائب للمستعمر الأجنبي.
وقالت أرانا: "لكنهم لم يتمكنوا من القيام بتلك الثورة، فقد فهم بوليفار جيداً أن عليه تحرير العبيد وضم كل الأعراق إلى جانبه، فمن وجهة نظره، العدو إسبانيا، وكل رجلٍ من كل لونٍ عليه الاتحاد ضد القوات المعادية".
أبرز انتصارات بوليفار
أبرز الانتصارات المذهلة في نضال سيمون بوليفار الطويل من أجل استقلال أمريكا اللاتينية حدث في 1819، حين قاد الرجل المعروف بالليبارتادور فرقة من العامة اجتاز بها جبال الأنديز التي يستحيل اجتيازها، لشن هجومٍ مباغتٍ على القوات الإسبانية المتفوقة في العتاد.
وكما كتبت الصحفية والمؤلفة ماري أرانا في سيرتها الذاتية، "بوليفار: المحرر الأمريكي"، أبقى بوليفار العبقري المتهور خطته سراً حتى عن رجاله، الذين كانوا يفضلون الانشقاق عن الفرقة بدلاً من السير أميالاً في المستنقعات الغارقة وصعوداً لقمم يصل ارتفاعها إلى 3.9 كيلومتر في شتاء أمريكا الجنوبية.
لكنهم بقوا معه، وأغراهم دفء وكاريزما شخصية بوليفار المهيبة، حتى عندما أصيب المئات منهم بالملاريا والحمى الصفراء في السهول الغارقة بالمياه، واخترقت رياح الأنديز قارسة البرودة ثيابهم المهلهلة، وقتلت كل حصان وبغل معهم.
عانى بوليفار مع رجاله، لكنه بدا أقوى بكثير من جسده الرفيع البالغ وزنه 58 كيلوغراماً.
وحين نزل ما تبقى من رجاله نصف عراة، يتضورون من الجوع، على الجانب الكولومبي من الأنديز، لم يجدوا أي مقاومة من الإسبان، فلا يوجد جنرال إسباني عاقل كان يتخيل وقوع هجومٍ مباغت كهذا.
وفي غضون أيام، كان بوليفار قد حشد قوات الدعم من الريف الكولومبي ومنح جنوده وقتاً للراحة والاستعداد للمعركة القادمة.
وفي 25 يوليو/تموز، هاجم بوليفار والوطنيون الجيش الإسباني جيد التسليح فقير المعرفة في معركة بانتانو دي فارغاس. والسلاح السري لدى الثوار كان اليانيرو Llanero: رعاة الغنم الأشداء في أمريكا الجنوبية الذين يشبهون رعاة البقر في أمريكا الشمالية، وحملوا على الإسبان بمناجلهم وحرابهم.
ثم جاءت معركة بويوكا الحاسمة، التي انتصر فيها بوليفار بسهولة واستعادت لهيب القتال.
وحينها بدأ جنرالات الإسبان في فقدان أعصابهم وقبضتهم الحديدية على مستعمرات أمريكا اللاتينية، إذ خافوا أساليب حرب العصابات من جانب الوطنيين، ووعودهم بـ"الحرب حتى الموت"، وفي غضون أيام، سيخسر هؤلاء الجنرالات مستعمراتهم.
لم يكن بوليفار وحده، لكن من الجلي أنه كان المحفز و"المعبود" لدى حركة التحرير في القرن التاسع عشر التي حققت الاستقلال لـ6 شعوب بأمريكا اللاتينية: فنزويلا، وكولومبيا، والإكوادور، وبنما، وبيرو، وبوليفيا، والأخيرة سميت تيمناً ببوليفار المحرر.
كولومبيا العظمى والانهيار العظيم
تعلم بوليفار من هزائمه الأولى، ونجحت محاولته الثالثة في القيام بالثورة، وحينها نفذ دخوله الذي لا يُنسى إلى كولومبيا عبر جبال الأنديز، وبدأ في إسقاط قطع الشطرنج الإسبانية في شمالي أمريكا الجنوبية واحدة تلو الأخرى.
وصار بوليفار رئيس كولومبيا العظمى، الدولة الناشئة التي شملت أغلب مناطق فنزويلا وكولومبيا والإكوادور وبنما، وبدأت رؤيته لتأسيس أمريكا لاتينية موحدة في التحقق.
وفي الأعوام التالية، استعمل نفوذه السياسي المتنامي في انتزاع السيطرة على بيرو وتأسيس دولة بوليفيا الجديدة، ولأنه رأى أن الناس ليسوا "جاهزين" لحكومة جمهورية حقيقية، نصب بوليفار نفسه الرئيس الفعلي للأراضي التي أسهم في تحريرها.
وفي 1826، عقد بوليفار مؤتمر بنما التاريخي، الذي جمع ممثلين من المكسيك وأمريكا الوسطى وكولومبيا العظمى لتوقيع معاهدة دفاع مشترك ضد إسبانيا وحلفائها.
لكن في وطنه بدأت الأشياء تتداعى، فقد تآمر أعداء بوليفار السياسيون ورفاقه العسكريون القدامى على الإطاحة به، والشعوب التي أراد الجمع بينها في كونفدرالية قوية لم يروا أنفسهم إخوة، فنشبت بينهم النزاعات الداخلية والحروب الأهلية.
وفاة سيمون بوليفار بطريقة حزينة
مع الأسف لم تكن نهاية بوليفار كما كان يأمل، فعندما سقطت جمهورية كولومبيا الكبرى من حوله، تدهورت صحته بإصابته بمرض السل، فأصيب بخيبة أمل ليقدم استقالته من الرئاسة.
وفي 1830 توفي بوليفار في سانتا مارتا في كولومبيا بعد أن حُرم من منصبه ومعاشه العسكري، وكان على وشك الدخول في منفى فرضه على نفسه، وحظر أعداؤه السياسيون في الحكومة ذكر اسمه، وفقاً لما ذكره موقع Thoughtco.
وهكذا بقي الحال حتى سبعينات القرن التاسع عشر، حين بدأ جيل جديد من النخبة الفنزويلية في البحث عن رموز سياسية يحشدون بها داعمي قضيتهم، ويرجع الفضل للرئيس الفنزويلي أنطونيو غوزمان بلانكو في إعادة إحياء "تقدير بوليفار".
يرى البعض أن بوليفار يستحق دون شك لقب "المحرر"، لكن على الجانب الآخر، ألهمت نزعة بوليفار للحكم السلطوي أجيالاً من السياسيين "الديكتاتوريين" في أمريكا اللاتينية، وصولاً إلى أحد محبي بوليفار المخلصين، الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز.