تنتشر قصة شهيرة بين هواة التاريخ الأمريكي بأن مجموعة من ضباط الجيش الأمريكيين الذين سئموا من الكونغرس وغياب فعاليته وتأثيره عرضوا على جورج واشنطن تاج الأمة الوليد حديثاً. فماذا كان رد واشنطن، وهل كانت على وشك أن تكون ملكية فعلاً؟
يثبت المؤرخون صحة هذه القصة بخطاب رفض شديد اللهجة من واشنطن نفسه، ولكننا عندما نلقي نظرة أقرب على الوثائق التاريخية، ستروي لنا قصة مختلفة.
في هذه الرواية، يختلط الإحباط المنتشر بين ضباط الجيش بأحلام اليقظة المؤيدة للملكية من أحد الضباط المتهورين. وما يزال واشنطن هو البطل في هذه القصة، ولكنه لم يكن هذا الاحتمال حتى وارداً بالنسبة إليه.
من الجدير ذكره أنه في عام 1789، أصبح جورج واشنطن أول شخص يشغل منصب رئيس الولايات المتحدة. وبصفته رئيساً للسلطة التنفيذية، كان مسؤولاً عن تطبيق نظام الحكم الذي أنشأه الدستور.
ولكن سرعان ما أدرك هو وبقية أعضاء الكونغرس الاتحادي الأول أن الدستور لا يضم حلولاً واضحة لكل مشكلة قد يواجهونها.
مفترق طرق بين الديمقراطية والملكية
في العودة لما قبل تلك الحقبة من التاريخ، عانت بريطانيا هزيمة ساحقة في يوركتاون أمام القوات الأمريكية والفرنسية عام 1781، أسفرت عن أسر 7 آلاف جندي من القوات البريطانية، وقائدهم الجنرال تشارلز كورنواليس.
وبدت نهاية الحرب وشيكة، لكن الجيش الأمريكي المُحاصَر تحت قيادة جورج واشنطن، كان ما يزال "في الخدمة" حتى توقيع معاهدة باريس عام 1783.
وفي تلك الأيام ما قبل كتابة الدستور، كانت وثائق الكونفدرالية تمنح معظم السلطات للولايات، وليس للحكومة الفيدرالية، حسب ما أوضحه موقع HowStuffWorks.
الجيش يخشى تخلي الحكومة عنه
على سبيل المثال، لم يتمتع الكونغرس بسلطة فرض الضرائب، الأمر الذي مثّل مشكلة من أجل تجهيز الجيش. وكان الكونغرس مضطراً إلى طلب التمويل العسكري من الولايات، التي كانت تتأخر معظم الوقت، أو لا تستجيب على الإطلاق.
ومع اقتراب الحرب من نهايتها، خشي الجيش ألا يتولى الكونغرس دفع الرواتب المتأخرة.
كان كبار الضباط قلقين بشكل خاص، بشأن رواتب تقاعدهم، بعد أن وُعدوا بتأمينهم مالياً بقية حياتهم. وبدأوا يسألون أنفسهم: هل يمكنهم الثقة بالتزام الكونغرس بوعوده والحصول على المال اللازم من الولايات؟
في عام 1782، كان العقيد لويس نيكولا (65 عاماً)، أحد ضباط الجيش القلقين بشأن رواتب تقاعدهم. وكان العقيد، الإيرلندي المولد، من قدامى المحاربين الذين قدّموا خبرات كبيرة لقوات واشنطن خلال الحرب.
تكررت المراسلات بين نيكولا وواشنطن، وكانت تتعلق عادة بواجبات نيكولا باعتباره قائداً لـ"فيلق العاجزين"، وهو مجموعة من الجنود المصابين ولكنهم ما يزالون لائقين بما يكفي للخدمة.
لكن خطاب نيكولا إلى واشنطن في 22 مايو/أيار عام 1782، كان مختلفاً تماماً. ففي تلك الرسالة الشائنة، افتتح نيكولا خطابه بتذكير بما قد يحدث إذا لم يحصل ضباط الجيش على التعويض المناسب، مهدِّداً بـ"التمرد".
وكتب نيكولا في خطابه: "يعلم الله أننا لا نفكر في إقحام هذا البلد، الذي أنقذناه من القهر وهو تحت تصرفك ورعايتك، في فوضى جديدة من الدماء والاضطرابات. ولكن لا تتوقع في مقابل ذلك أن نتنازل عن مطالبنا التي يعتمد عليها مستقبلنا ومستقبل عائلاتنا".
ثم انتقل نيكولا إلى ما سماه "المخطط"، إذ اعترف لواشنطن بأنه "غير معجب بالنظام الجمهوري للحكومة"، وتفضيله حكومة تجمع بين ممثلين منتخبين يحكمهم ملك قوي وخيّر. ومن كان أفضل لمثل هذا المنصب القيادي من واشنطن نفسه؟
وكتب نيكولا: "… القدرات نفسها التي قادتنا عبر الصعوبات التي بدت لا تقهر، إلى النصر والمجد، تلك القدرات التي نالت إشادة وتقدير العالم والتبجيل من الجيش، من المحتمل أن تكون هي ما نحتاجه لتوجيهنا إلى مسارات أكثر رخاء في حالة السلام".
وأضاف في فقرة أخرى: "لقد ربط بعض الأشخاص بين الأفكار الاستبدادية والملكية لدرجة وجود صعوبة كبيرة في الفصل بينهما. لذا، قد يكون من الضروري أن نمنح الدستور ما يريد، وما أقترحه هو استخدام لقبٍ أكثر اعتدالاً. ولكن مع تعديل كل الأمور الأخرى مرة واحدة، أعتقد أنه ستتوافر حجج قوية للاعتراف بلقب الملك، وهو ما أتصور أنه سيكون مصاحباً لبعض المزايا المادية".
جورج واشنطن يرفض الحكم الملكي بشدة
لكنَّ ردَّ واشنطن، الذي جاء في اليوم نفسه، بدا مدمراً لذلك "المخطط".
إذ كتب واشنطن: "اطمئن سيدي، لم يكن هناك أي حدث في الحرب أكثر إيلاماً لي من إخبارك لي بهذه المعلومات عن وجود مثل هذه الأفكار التي عبّرت عنها بين أفراد الجيش، وهي الأفكار التي يجب أن أنظر إليها باشمئزاز، وأستنكرها بشدة. إنني أتعجب كثيراً! أي جزء في سلوكي شجّعكم على أن تتقدموا إليّ بهذا المخطط الذي أراه من أكبر المآسي التي قد تصيب بلدي؟ إن لم أكن مخدوعاً في نفسي، فأعتقد أنك لن تجد شخصاً تزعجه مخططاتك أكثر منّي".
وكان رفض واشنطن للنظام الملكي الأمريكي مطلقاً، ولكن هل رسالة واحدة من عقيد متهور في الجيش تُعادل عبارة "عُرض عليه التاج الأمريكي" كما يعتقد كثيرون؟
يقول دنفر برونسمان، أستاذ التاريخ بجامعة جورج واشنطن والباحث في شؤون حرب الاستقلال وجورج واشنطن: "ربما من المبالغة قول إن واشنطن عُرض عليه لقب الملك".
وأضاف برونسمان: "لم يكن نيكولا في مكانة تسمح له بذلك، ولا أعتقد أنه كان جزءاً من أي حراك حقيقي أو كبير. لكن هذا لا يعني عدم وجود أشخاص لديهم تلك الأفكار، وأعتقد أن نيكولا كان يمثلهم. كان هناك العديد من الأفراد داخل قوات الجيش محبَطين للغاية من الكونغرس ويتطلعون إلى أي مقترح يحل مشكلاتهم. أهم ما في الأمر هو استجابة واشنطن لتلك المطالبات. لقد وأد أي احتمالية لذلك في مهدها. وأعتقد أنَّ تصرفه مبهر ويُظهر لنا لماذا كان واشنطن قادراً على كسب ثقة الشعب الأمريكي".
البداية الحقيقية للديمقراطية الأمريكية
في الواقع، لم يبزغ فجر الديمقراطية الأمريكية عام 1776 مع إعلان الاستقلال، ولا عام 1788 عندما صدَّقت الولايات على الدستور، أو في عام 1789 عندما تولى واشنطن منصبه.
وفقًا لهاري روبنشتاين، رئيس وأمين قسم التاريخ السياسي في متحف التاريخ الأمريكي، لم تأتِ الولادة الرمزية حتى وُضعت أمام الاختبار.
في 19 سبتمبر/أيلول 1796، نشر واشنطن خطاب الوداع، الذي يمثل أول انتقال سلمي للسلطة في التاريخ الأمريكي، ويؤكد تطبيق نظام الديمقراطية فعلياً وليس فقط على الورق.