اتَّخذ الخلاف بين الجزائر والمغرب منحى ثقافياً بسبب فن الراي، وذلك عندما تقدّمت وزارة الثقافة الجزائرية بطلب رسمي إلى منظمة اليونسكو لتسجيل هذا الفن موروثاً وطنياً خالصاً للجزائريين.
وكان مقرراً أن تنظر في الملف الدورة الـ15 للجنة الحكومية المشتركة لحماية التراث الثقافي اللامادي، المقرّر انعقادها افتراضياً من 14 إلى 19 ديسمبر/كانون الأول 2020، غير أن وزارة الثقافة الجزائرية سحبت الملف، بحجة أنه "ناقص في العناصر المكوّنة له، وهو ما يُضعف أسباب نجاحه".
وتزامناً مع طرح هذا الملف، عاد النقاش مجدداً عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بين المغاربة والجزائريين، حول أصول فن الراي وتاريخه ونسبته لأي من البلدين الجارين.
فن الراي.. مغربي أم جزائري؟
سنة 2016، أعلن وزير الثقافة الجزائري حينها، عز الدين ميهوبي، تقديم وزارته ملفاً لليونسكو لتصنيف فن الراي موروثاً غنائياً شعبياً للجزائر، من أجل الحفاظ عليه وحمايته.
وأبرز المسؤول الجزائري السابق أنه من حقّ أي جزائري أن يغار على موروثه الثقافي، مشيراً إلى أن خطوة تقديم الطلب لليونسكو جاءت إثر "قلق الجزائريين على تراثهم من محاولة السطو عليه".
اتهامات المسؤول الجزائري كانت موجّهه إلى الجار المغرب، بعد أن أصبح يُروّج لفن الراي، خصوصاً من خلال "المهرجان الدولي للراي"، المنظم في مدينة وجدة الحدودية مع الجزائر، والتي استطاعت في وقت وجيز استقطاب نجوم معروفين في ساحة موسيقى وغناء الراي.
وكان وزير الثقافة الأسبق بالمغرب محمد الأعرج، اعتبر في إحدى دورات "المهرجان الدولي للراي" بمدينة وجدة (شرق المغرب)، أن الراي "تراث فني مغاربي عريق ولج بكل تَمَيُّز مدارج الانتشار العالمي".
وأشار الوزير الوصي السابق عن الثقافة في المغرب، أن هذا الفن يحمل تعابير وجدانية عميقة للجهة الشرقية من المملكة خصوصاً، وللامتداد المغاربي عموماً".
من جهته كشف الباحث الموسيقي المقيم في فرنسا، محمد الريصاني، في حديثه مع "عربي بوست" أن "الجدل حول أصول فن الراي لم يكن ليظهر لولا أن "المهرجان الدولي لفن الراي بوجدة" استطاع أن يغطي على مهرجان وهران للراي الذي توقّف لمدة كبيرة، إذ استقطب مهرجان المغرب الجمهور الجزائري المحبّ لهذا الفن، وكذا كبار الفنانين المقيمين في فرنسا والدول الأوروبية".
فن الراي.. امتداد لثقافة الجارين
في وقت تجتهد فيه الجزائر والمغرب لنسب هذا التراث إليهما، يرفض باحثون أكاديميون هذا النقاش، مؤكدين أن هذا الفن لا ينتمي لأية دولة أو جهة، باعتباره من الإبداعات الفنية والثقافية التي تميّز الجهة الشرقية للمغرب والغربية للجزائر، ويشكل امتداداً لثقافة سائدة في المنطقة الجغرافية ما بين البلدين.
ويرى الباحث الموسيقي المقيم في فرنسا، محمد الريصاني، أن "كل ما يتعلق بالتراث بين الجارتين الجزائر والمغرب هو مشترك، بالخصوص في المناطق غرب الجزائر وشرق المغرب".
ويبرز الباحث الموسيقي في حديثه مع "عربي بوست" أن كل ما أنتج في تلك المناطق "يعدّ تراثاً محلياً مشتركاً، بالنظر إلى العلاقات الدموية التي تجمع بين ساكنة شرق المغرب وغرب الجزائر، إضافة إلى اشتراك المنطقتين في اللهجة وطرق العيش وطقوس الأفراح والأحزان أيضاً".
وأضاف المتحدث أن "كل الإنتاج الشعري الشعبي، وما يرافقه من إيقاعات وآلات محلية للعزف، أو كل أشكال التعبير الثقافي الشعبية، لا يمكن أن تختلف بين منطقتين جغرافيتين قريبتين جداً".
فن الراي.. مزيج ثقافات
وأمام الصراع الثقافي القائم بين الجاريتن حول فن الراي يُرجع بعض الباحثين الجزائريين تاريخ هذا الطّبع الغنائي القديم إلى زمن التدخل الإسباني في الجزائر في القرن الـ18، إذ نشأ هذا الفن في مدن غرب الجزائر، كمدن وهران، وسيدي بلعباس، وعين تموشنت، ثم غليزان.
مقابل ذلك يرجعه آخرون إلى قيام دولة الموحّدين في المغرب العربي، إذ بدأ فن الراي كنتاج ثقافي عن امتزاج الثقافة العربية بالأندلسية بالأمازيغية، وصورته الأولية كانت أبياتاً من الشعر المنشود في الشوارع والحواري للعامة.
يقول الإعلامي والباحث الجزائري سعيد خطيبي في كتابه "أعراس النار.. قصة الراي": "لم يكن الأمر سهلاً أن نبحث في جذور هذه الموسيقى المثيرة للجدل، التي كانت من الطابوهات، ولكنها أصبحت الوجه الآخر للجزائر في العالم".
وبحثاً عن الجذور لم يكن للكاتب سوى مساءلة الموسيقى الوهرانية من خلال لقائه بالفنان بلاوي الهواري، والموسيقى البدوية القديمة من خلال تراث الشيخ حمادة وغيره، ومن خلال النصوص الأولى التي شكّلت مجد الأغنية الوهرانية والبدوية وفن الراي في وقت لاحق، مثل نصوص سيدي لخضر بن خلوف، ومحمد بن مسايب ومصطفى بن إبراهيم المعروف بشاعر بني عامر وغيرهم.
ويسجل صاحب "أعراس النار.. قصة الراي" أن "موسيقى فن الراي جزء من التراث الشعبي لمدينة وهران، التي نَظّمت عام 1985 أول مهرجان لفن الراي"، مضيفاً أنها "موسيقى تستمد بعض جذورها من الأغنية الوهرانية، على أيدي الشيخات، أما الحصاد والشهرة فنالها نجوم الجيل الجديد الذين يطلقون على أنفسهم الشاب والشابة تمييزاً عن الجيل المؤسّس".
القصيدة البدوية شعلة فن الراي
الصراع حول أصول فن الراي قد يغطي على مراحل نشأة هذا الفن، الذي وجد له مكاناً واسعاً وسط عالم يعجّ بالتعبيرات الفنية.
يقول الباحث في التراث والفن ميمون الركاب، إن "البحث عن أصول الراي غير مُجدٍ، لأنه لا أحد يدّعي أنه صاحب هذا الفن أو يمتلك صك حيازته".
وأوضح ميمون الركاب في حديثه مع "عربي بوست" أن "شرق المغرب تاريخياً لم يستقرّ على صورته النهائية إلا بعد معاهدة لالة مغنية (وقعها المغرب مع فرنسا سنة 1845، كان من أهم بنودها رسم الحدود بين المغرب والجزائر المحتلة آنذاك)".
ما يعني، حسب الباحث نفسه، أن "الخريطة الثقافية التي ينتمي إليها شرق المغرب لا تنضبط للحدود السياسية، لهذا ينظر لشرق المغرب وغرب الجزائر على أنهما شكَّلا وحدةً ثقافية منصهرة ومتجانسة روحياً وثقافياً وقبلياً وفنياً".
ويؤكد الباحث في التراث والفن ميمون الركاب، أنه "من هذه الخلفية استمر النص الشعري الشفاهي الغنائي هو الآخر متماسكاً متواصلاً متشابهاً داخل رقعته الثقافية، والبناء الثقافي لكل مجال هو حصيلة تراكم تاريخي وتفاعل بشري لا تستطيع الحدود الطارئة محو آثاره".
وأبرز ميمون الركاب أن "جل الأغاني في بدايتها الأولى كانت عبارة عن نصوص من القصيدة البدوية أو الملحون، وحتى في لحنها وإيقاعاتها لا تبتعد كثيراً عن اللحن التراثي البدوي، وهو ما يشترك فيه شرق المغرب وغرب الجزائر".
وأشار المتحدث إلى أن "الأغنية البدوية المتأثرة بنصوص الملحون ظلت حبيسة القبيلة، كتعبير عن الذات، وعما يخالجها في إطار النظام القبلي، لكن الفنان عندما انتقل إلى الحياة المدنية وجد نفسه من دون حماية القبيلة، ومضطراً للتعبير عن مكنونات نفسه، ومن هنا استمد فن الراي اسمه، بحيث كان تعبيراً عن الذات وشكلاً من أشكال مناجاتها"، يقول صاحب كتاب "القصيدة البدوية.. من المشيخة إلى الراي".
ويرى الباحث في التراث والفن ميمون الركاب، أن "للهجرة دوراً كبيراً، سواء في توظيف الآلات الموسيقية في فن الراي أو في نقله إلى الخارج، على اعتبار أن أزمة الاندماج التي تشكلت لدى شريحة واسعة من المهاجرين بسبب سياسات الدول المستقبلة دفعت بهؤلاء المهاجرين إلى تلمُّس الانتماء إلى الوطن عبر استحضار أغاني الراي".