فوهرر
كلمة ألمانية تعني القائد، وفي السياسة ترتبط هذه الكلمة بالزعيم النازي أدولف هتلر، وهو فعليّاً الشخص الوحيد الذي حمل هذا المنصب.
أما أبرز نواب الفوهرر فكان رودلف هِس، الذي شغل المنصب منذ العام 1933 حتى العام 1941، مع بداية الحرب العالمية الثانية، عندما قام بعمل شجاع، إذ سافر إلى اسكتلندا سراً بالطائرة لتقديم اقتراح سلام مع إنجلترا وهبط بالمظلة، لكن تم أسره وأدين في النهاية بارتكاب جرائم ضد السلام.
وقضى عقوبة بالسجن مدى الحياة حتى انتحاره. أصبح محل احترام وتقدير كبيرين بين مؤيدي النازية ومعادي السامية في العالم.
فقد كان هِس زعيماً ذا قيمة في الحزب النازي الألماني، إلى جانب مناصب أخرى، وقد حلّق بالطائرة بنفسه من أوجسبورج الألمانية وقفز منها سراً فوق مزرعة الدوق في اسكتلندا، وكل ذلك من أجل تقديم اقتراح سلام مع إنجلترا لمنع اندلاع حرب عالمية جديدة، وفقاً لما ذكرته مجلة National Interest الأمريكية.
بعثة سلام سرية سابقة كادت أن تمنع الحرب العالمية الثانية
لكن في المقابل، لا نعرف سوى القليل جداً عن البعثة السرية إلى إنجلترا بقيادة البارون إيوالد فون كلايست، التي سبقت بعثة هِس بطلبٍ من الأدميرال فيلهلم كاناريس، رئيس الاستخبارات الألمانية.
فقد التقى النبيل البروسي كلايست شمنزن في منتصف أغسطس/آب باللورد لويد، رئيس المجلس الثقافي البريطاني، ووينستون تشرشل، رئيس الوزراء مستقبلاً ومن كبار منتقدي الحكومة البريطانية حينها، والسير روبرت فانسيتارت، من كبار المعارضين للتهدئة في وزارة الخارجية البريطانية.
هذه العملية السرية خطَّط لها رئيس الاستخبارات الألمانية ضمن حركة المقاومة المناهضة لهتلر داخل الجيش الألماني، وطلبت دعماً من البريطانيين لخطة هيئة الأركان العامة بالجيش الألماني، للانقلاب على النظام النازي أثناء التصعيد في الأزمة التشيكوسلوفاكية.
إعجاب رئيس الاستخبارات الألمانية بحنكة كلايست شمنزن السياسية
كان إيوالد فون كلايست من المحافظين، ومشاركاً نشطاً في حزب الشعب الوطني الألماني.
فقد دعم إيوالد فون كلايست العودة إلى الملكية، وتبنَّى المُثل المسيحية المتدينة.
وفي العقد من 1923 إلى 1933، كان خصماً عنيداً للنازية قبل أن يبدأ العصر الدكتاتوري لأدولف هتلر.
وفي عام 1929، نشر كلايست شمنزن مخطوطة عن مخاطر الاشتراكية القومية، ما جعله يتبوأ مكانة بارزة بين صفوف المعارضة.
وفي عام 1934، صدر قرار من هتلر بحل حزبه السياسي، لكن مكانته ظلت بارزة بين رجال الصناعة ورائدي الأعمال في ألمانيا.
وبعد عام 1934، هيمن هتلر على كل الأحزاب السياسية المعارضة، والكنيسة الكاثوليكية، والفيرماخت، والقطاع المالي والصناعي، والجهاز الحكومي بأكمله.
وكان الأدميرال فيلهلم كاناريس معجباً للغاية بكلايست شمنزن، بشجاعته وقناعاته السياسية.
وكان كاناريس في السر متشككاً في مستقبل الرايخ الثالث، وجنّد البارون في شبكة الاستخبارات غير الرسمية التابعة له.
وبدأت المقاومة الألمانية تخطط لإرسال مبعوث إلى بريطانيا، في أبريل/نيسان 1938، وفي مايو/أيار، علم كاناريس بخطة هتلر لغزو تشكوسلوفاكيا، وكان على المعارضة معرفة ما إذا كانت بريطانيا ستهبّ للدفاع عن التشيكيين.
الزائر الألماني وصل
كان على كاناريس أن يحرص على وصول إيوالد فون كلايست إلى إنجلترا دون علم الاستخبارات السرية البريطانية.
وفي 13 أغسطس/آب 1938، أعلم رئيس الاستخبارات الألمانية صديقه كلايست بخطط رحلته السرية إلى لندن، وكان كاناريس قد أعطى كلايست شمنزن جواز سفر زائفاً.
وفي 18 أغسطس/آب، صعد البارون على متن طائرة لوفتهانزا جانكرز-52 من المخطط أن تحمله إلى العاصمة البريطانية، بصحبة رجل إنجليزي هو إتش. دي. هانسون، الذي طلب من ضباط الجمارك في قاعدة كرويدن الجوية أن "يدعوا المدني الذي يرتدي حلة رمادية" يمر دون اعتراضه.
وبعدها أبلغ هانسون الاستخبارات السرية البريطانية بأن "الزائر الألماني وصل للتو".
هتلر يخطط لغزو تشيكوسلوفاكيا
التقى كلايست شمنزن بالسير روبرت فانسيتارت بوزارة الخارجية، وكانت رسالة كلايست شمنزن إلى فانسيتارت بسيطة: "هتلر يخطط لغزو تشيكوسلوفاكيا في منتصف أو أواخر سبتمبر/أيلول".
إن أعلنت بريطانيا استعدادها لمحاربة الدكتاتوري النازي حتى وإن كان هذا يعني حرباً عالمية جديدة، سيضطر هتلر إلى تأجيل خطته، أو ربما ينقلب عليه ضباط ألمان معادون للنازية ويشكلون حكومة جديدة.
الألمان سئموا من هتلر
بينما كانت النصيحة الثانية من كلايست شمنزن هي أن "الكثير من سكان ألمانيا سئموا النظام الحالي، والبعض الآخر يشعر بقلق بالغ من احتمالية نشوب الحرب والأوضاع التي ستنشأ عنها".
تشرشل يسمع التحذير
بعد لقائه بفانسيتارت، سافر كلايست شمنزن إلى شارتويل ليلتقي بونستون تشرشل، الذي قام ابنه راندولف تشرشل بتدوين الملاحظات أثناء تحدثه مع البارون.
في اليوم السابق، كان تشرشل قد حذَّر في صحيفة لندن دايلي تليغراف من أن أي محاولة ألمانية لسحق تشيكوسلوفاكيا ستورِّط الألمان مع "كل الأمم العظيمة على الأرض". وكرّر تشرشل هذا التحذير لكلايست شمنزن، الذي طلب رسالة من تشرشل يعطيها لهيئة الأركان العامة.
وبعد لقائه بكلايست شمنزن في شارتويل، أرسل تشرشل مذكرة إلى وزارة الخارجية، يُعلمهم فيها بما يقوله البارون عن أهمية التصدي لهتلر.
وحصل تشرشل على موافقة رسمية ليكتب رسالة تشجيع للجنرالات الألمان وحلفاء الملكية، يوصلها كلايست.
كما أرسل تشرشل أيضاً نسخة من نص نقاشه مع كلايست إلى تشامبرلين ورئيس الوزراء الفرنسي إدوارد دالادييه.
وحث تشرشل القادة البريطانيين والفرنسيين على توبيخ هتلر ليترك تشيكوسلوفاكيا وشأنها.
وأراد تشرشل من الاتحاد السوفييتي أيضاً أن يوافق على هذه الرسالة.
كل ذلك الذي فعله تشرشل كان جزءاً من مخطط يهدف لتشجيع الرئيس الأمريكي فرانكلين دي. روزفلت على التدخل في الأزمة الأوروبية والضغط على هتلر ليتخلى عن موقفه العدائي.
لكن هاليفاكس وتشامبرلين لم يتحمسا للمشاركة في خطة تشرشل، خاصة لأنهما لم يعتقدا أن الروس كانوا سيشاركون في إعلان مماثل ضد هتلر.
ولم يكن تشامبرلين ليخاطر بدخول حرب مع ألمانيا بناءً على زيارة كلايست شمنزن وتشجيع الجنرالات المعارضين لهتلر.
لكن كلايست شدد على أنه دون تصريح قوي من الساسة البريطانيين لن يمكن لهيئة الأركان "أن تقوم بأي تحرك من شأنه إنهاء عهد الرعب هذا، وسيستحيل تأسيس نظامٍ عالمي عقلاني من أي نوع، ما دام هذا النظام النازي قائماً".
وقد حاول تشرشل بكل قوته ونفوذه، رغم أنه لم يكن في الوزارة حينها، أن يساعد البارون في مهمته ويقوّي من عزم المعارضين الألمان.
وفي وقتٍ لاحق من هذا الشهر، هاجم تشرشل علانية أمام دائرته الغزو الألماني المخطط له لتشكوسلوفاكيا باعتباره "جريمة ضد الحضارة وحرية الإنسان".
تشامبرلين الذي لا يتزعزع
تصريحات تشرشل جاءت من رجل كان وقتها لا يزال في "العراء السياسي" هو رئيس الوزراء حينها نيفيل تشامبرلين، الذي قال في أحد تصريحاته كلايست إنه عدو سياسي لهتلر تعميه كراهيته الشخصية له.
وأكمل في الرسالة: "هناك الكثير من الحجج التي يمكن إقامتها ضد مزاعم كلايست، وقد وصلتنا مؤخراً أصوات من ألمانيا تزعم أن نيات هتلر خوض الحرب يجب أخذها على محمل الجد، ومن ثم ينبغي أن نقابلها بالتهدئة".
لذا رفض رئيس الوزراء، خوفاً من الإساءة لهتلر، اتخاذ موقف علني بخصوص زيارة كلايست ومطالبه.
وعلق تشامبرلين: "أفهم أن كلايست معارضٍ لهتلر بعنف، وعازم على تهييج أصدقائه في ألمانيا من أجل محاولة الإطاحة به، إنه يذكرني بما حصل في بلاط فرنسا في عصر الملك ويليام، وأظن أن بإمكاننا تجاهل قدرٍ كبير مما يقوله".
لكن تشامبرلين أظهر تقلباً في مواقفه، فبعد أن رفض مطالب كلايست أرسل مذكرة أخرى إلى هاليفاكس، تُظهر "تغيّراً كاملاً في موقفه".
قال تشامبرلين لهاليفاكس إنه يرى أن بريطانيا عليها أن تفعل شيئاً، ومن ثمَّ استدعت الوزارة السفير السير نيفيل هندرسون من برلين، وأعلمته برسالة كلايست شمنزن، وأعطته تعليمات بتحذير هتلر من أن بريطانيا ستقف في مواجهته.
لكن هندرسون المعروف بتأييده للتهدئة، شكك في موفق المعارضة في هيئة الأركات العامة، وقال إن "معلوماتهم من جانب واحد، وحزبية، وتستهدف نشر دعاية مضللة ليس إلا".
وهكذا غادر كلايست لندن في 23 أغسطس/آب، شاعراً بخيبة أمل عميقة، وقال لرئيس الاستخبارات الألمانية كاناريس: "لم أجد أحداً على استعداد لاستغلال الفرصة ويخاطر بشن حربٍ وقائية، انطباعي هو أن إنجلترا ترغب في تجنب نشوب الحرب هذا العام، بأي ثمنٍ كان".
عاد كلايست شمنزن إلى مزرعته في بوميرانيا محبطاً، وفي سبتمبر/أيلول 1938، قام هتلر بإخبار رئيس استخباراته بأن هناك مبعوثاً توجه إلى لندن مؤخراً وأجرى محادثات مع مسؤولين بريطانيين أقل ما توصف به أنها خيانة عظمى، وأسندت إليه مهمة العثور على الخائن.
فقام رئيس الاستخبارات بالتواصل مباشرة مع كلايست، وجهّز الاثنان حجة غيابية في حال استجوابه من هتلر.
معارضة مستمرة
إيوالد هاينريش فون كلايست
كان إيوالد هاينريش فون كلايست ناشراً ألمانياً ومنظماً لمؤتمر ميونيخ للسياسة الأمنية حتى عام 1998.
وكان كلايست ضابطاً في الفيرماخت خلال الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى أنّ والديه كانا نشطين في المقاومة الألمانية ضد أدولف هتلر.
تم تعيينه لقتل هتلر في هجوم انتحاري وكان آخر عضو على قيد الحياة في مؤامرة 20 يوليو/تموز 1944 لاغتيال هتلر
وبعد فشل محاولة اغتيال هتلر تم اعتقال كلايست شمنزن في اليوم التالي، ولسوء حظه كان قد تلقى الرسالة الموعودة من تشرشل بعد أيامٍ من لقائهما، على يدم محامٍ بالأبفير يُدعى فابيان فون شلابريندورف.
وما كتبه تشرشل في الرسالة كان:
"أنا واثق من أن عبور الجيوش الألمانية أو الطيران الألماني حدود تشيكوسلوفاكيا لمهاجمتها سيؤدي إلى تجدد الحرب العالمية، وأنا واثقٌ من هذا كما كنت واثقاً في يوليو/تموز 1914 من أن بريطانيا ستزحف إلى جانب فرنسا، وأن مشهد الهجوم المسلح من ألمانيا على دولة مجاورة صغيرة والقتال الذي سيندلع جراء هذا سيؤدي إلى هبة من الإمبراطورية البريطانية بأكملها، ويجبر على اتخاذ أخطر القرارات. أرجو ألا تغيب عنكم هذه النقطة. مثل هذه الحرب، إن بدأت، ستمضي حتى نهايتها المريرة كسابقتها، وعلى المرء أن يتفكر، لا في ما قد يحدث في الأشهر الأولى، بل أين سنكون جميعاً بحلول السنة الثالثة أو الرابعة من الحرب".
لسوء حظ كلايست شمنزن وكانارس، لم يكن تشرشل رئيس الوزراء حينها، ولم تكن رسالة تشرشل تأكيداً حاسماً على الأعمال العدائية التي ستندلع في حال خرق السيادة التشكيوسلوفاكية.
وبقدر ما كانت رسالة تشرشل صادقة في بيانها ورؤيتها، إلا أنها أهلكت كلايست شمنزن.
ففي عملية تطهير الجيش الألماني في 1944، عُثر على الرسالة في مكتب كلايست شمنزن بعد محاولة اغتيال هتلر، واستُعملت دليلاً في محاكمته والحكم عليه بالإعدام، في 23 فبراير/شباط 1945.
وأعدم في النهاية في سجن بلوتزنسي في برلين، في 9 أبريل/نيسان، قبل أسابيع من انهيار الرايخ الثالث واستسلام ألمانيا النازية التي سعى إلى إسقاطها بالجهود الدبلوماسية، في أغسطس/آب 1938.
فيما اعتُقل كاناريس أيضاً بعد محاولة الاغتيال في 20 يوليو/تموز.