تعتبر معركة كوسوفو الأولى، أو كما يطلق عليها أحياناً معركة قوصوه الأولى، والتي وقعت عام 1389 بين العثمانيين وبعض إمارات وممالك شرق أوروبا (البلقان)، تعتبر أول انتصار عثماني كبير في أوروبا، والذي فتح النطاق أمام الدولة العثمانية للتوسُّع في أوروبا لاحقاً، والسيطرة على البلقان لقرونٍ عديدة لاحقة.
كما تحيط بهذه المعركة أهميةٌ أخرى، فليست هي فقط المعركة الكبرى الأولى، وإنما هي المعركة المميزة بأنّ سلطان الدولة العثمانية قد قتل في المعركة. وهذه قصّة معركة كوسوفو الأولى وقصّة السلطان مراد الأول.
الدولة العثمانية الناشئة تتمدّد في أوروبا على يد السلطان مراد الأول
تأسست الدولة العثمانية عام 1299 على يد عثمان الأوّل الذي استطاع أن يحقق حلم أبيه وينتزع مدينة بورصة ويجعلها عاصمةً لبلاده. أكمل ابنه أورخان على ما بناه أبوه، وعبر لأوّل مرة في تاريخ العثمانيين إلى الجانب الأوروبي من القسطنطينية.
لكنّ هذا العبور لم يكن سوى خطوة بالطبع لما هو أبعد من ذلك. فما أن توفي أورخان عام 1360 حتّى سيطر ابنه مراد الأوّل على مدينة أدرنة البيزنطية، والواقعة في الجانب الأوروبي عام 1362، وخلال عدّة سنوات أصبحت أدرنة هي العاصمة الجديدة للدولة العثمانية.
وهكذا أصبحت الدولة العثمانية، والتي كانت منذ سنوات قليلة فقط مجرّد إمارة صغيرة على الحدود البيزنطية، أصبحت دولة حقيقية تسيطر على مناطق واسعة من الأناضول، وتضع لأوّل مرة في تاريخ العثمانيين والإمارات التركمانية المسلمة قدماً لها في أوروبا، بل وتجعل عاصمتها في أوروبا.
وبطبيعة الحال، أثار هذا الانتقال العثماني إلى أوروبا ليس فقط خوف الإمبراطور البيزنطي المتأرجح موقفه مع العثمانيين بين دفع الجزية والخضوع وبين الاستعانة ببابا روما. فقد بدأت إمارات وممالك أوروبا الشرقية تشعر بالتهديد، وهكذا بدأت بعض المناوشات والمضايقات والمعارك الصغرى بين الطرفين.
هذه المناوشات هي التي أدّت في النهاية إلى تلك المعركة الحاسمة.. معركة كوسوفو الأولى.
معركة كوسوفو الأولى بقيادة السلطان مراد الأول
كانت الدولة العثمانية في ذلك الوقت تحارب على جبهتين، الجبهة الأولى هي مركز الثقل الرئيسي في الأناضول، حيث العديد من الإمارات التركية والتركمانية التي تصارع الدولة العثمانية على مساحات النفوذ. والجبهة الثانية هي جبهة التوسُّع في أوروبا، من خلال بلاد البلقان بالطبع.
وهكذا أرسل مراد الأول قائده العسكري تيمور تاش إلى شرق أوروبا، فهزم العديد من الإمارات الأوروبية، بينما كان مراد الأول يحقق بعض الانتصارات المهمة في الأناضول.
أقلقت انتصارات تيمور تاش في شرق أوروبا أمير الصرب لازار، وهو أحد أقوى أمراء الصرب. كان لازار قد قبل السيادة العثمانية سابقاً، لكنّ تقدّم تيمور طاش أقلقه أكثر، فاعتبر أنّ تقدمه لن ينتهي إلا بالقضاء على لازار نفسه، وهكذا بدأ لازار في تكوين حلفٍ من بلاده وبلاد البوسنة وكذلك بعض الإمارات الأخرى التي إما هُزمت من العثمانيين أو أقلقها التقدُّم العثماني.
وقد باغت لازار وحلفاؤه قوات تيمور تاش عام 1388 في منطقة بلوشنك، وهزموه هزيمة ساحقة وأجبروه على التقهقر والتخلِّي عن الأراضي التي كان قد ضمّها في جنوب صربيا. لكنّ هذه الهزيمة لم تمرّ مرور الكرام على السلطان مراد الأول.
مثّل انتصار ملك الصرب لازار في هذه المعركة أملاً لبقية الإمارات والممالك الشرق أوروبية، وهكذا بدأ تحالفه يتّسع لحلفاء جدد. فأصبح حلفه يضمّ الصرب والبلغار والبوسنة والأفلاق وبولندا وبعض الألبان من الذين كانوا قد قبلوا السيادة العثمانية سابقاً.
وجّه مراد الأول جيوشه مرةً أخرى نحو شرق أوروبا، وقد ترك قوةً من جيشه في الأناضول لمواجهة القلاقل التي كانت تثيرها بعض الإمارات التركمانية هناك. فقد كانت أولويته هي الردّ على تلك الهزيمة وإثبات سيطرة دولته على ما كان تحت سيطرتها من أراضٍ في شرق أوروبا.
استطاع أولاً هزيمة البلغار وبعض الإمارات الأخرى، مواصلاً طريقه لمقابلة حلف لازار الشرق أوروبي. وهكذا كانت شرق أوروبا على موعدٍ مع معركة كوسوفو الأولى.
وقعت المعركة يوم 10 أغسطس/آب عام 1389 في كوسوفو، جنوب صربيا. كان قائد الجيش الأوروبي هو لازار، ملك الصرب. بينما اشترك معه من أمراء البلقان تورتكو ملك البوسنة، وفوك برانكوفيتش، ومركيا أمير الأفلاق، وجورج كاستريوتا أحد أمراء ألبانيا.
كان الجيش العثماني وعلى رأسه السلطان مراد الأول، وحلفاؤه من أمراء البلغار المسيحيين الذين أعلنوا ولاءهم للدولة العثمانية.
وعندما بدأت المعركة كانت كفة المعركة لصالح الجيش البلقاني، بعدما بدأ الجيش الصربي هجومه القوي. استطاعت المقدمة العثمانية امتصاص هذا الهجوم الضخم مدعومين بالنبّالة، وفي لحظةٍ مواتية هاجم الجيش العثماني، فاستطاع تفريق الجيش الشرق أوروبي وأسر ملك الصرب لازار وبعضاً من قادته.
كان جزاء لازار القتل هو وقادته.
لكنّ فرحة النصر العثماني تعكّرت بما حدث للسلطان العثماني، فبينما هو يسير في أرض المعركة بعد انتصاره الكاسح، اقترب منه أحد النبلاء الصرب معلناً إسلامه ورغبته في الحديث مع السلطان، وعندما اقترب عاجله بطعنات من خنجره، وهكذا فارقت روحه الحياة بعد وقتٍ قليل.
تعتبر المصادر الصربية قاتل السلطان بطلاً بطبيعة الحال، بل ويشير بعضها إلى أنّ السلطان قد قتل بتخطيطٍ مسبق من اثني عشر صربياً قرروا اغتياله في خيمته. بينما تشير المصادر التركية إلى أنّ النبيل الصربي قابله في أرض المعركة، أو أنّه جاء لخيمة السلطان وأخبر الحراس بأنه أسلم ويريد مقابلته، وعندما سمحوا له بالدخول طعنه بخنجره على حين غرة.
وهكذا، كانت نتيجة هذه المعركة هو كسر شوكة المنافس القوي المُمكِّن للدولة العثمانية في شرق أوروبا، وهكذا اعتبر المؤرخون تلك المعركة أول انتصارٍ ساحق للعثمانيين في أوروبا. وهكذا فُتحت أبواب الصرب على مصراعيها للتوسع العثماني.
بل وفتحت الباب أمام ابن السلطان مراد الأوّل بايزيد الأوّل الملقّب بالصاعقة، ليقضي على المقاومة المجرية في معركة نيكوبوليس عام 1396. ويمكنك القراءة عنها في هذه المادة.
وعلى كلٍ، لم تكن معركة كوسوفو هي الأولى، فقد كان أحد أحفاد مراد الأوّل على موعدٍ مع معركة كوسوفو الثانية بعدها بقرابة سبعين عاماً. والمثير أنّ اسمه أيضاً كان مراد الثاني!