لم تكن المطامع المالية والبحث عن الثروات السبب الوحيد الذي دفع ببعض الإنجليز إلى الهجرة للعالم الجديد في القرن السابع عشر. هرب الكثير منهم بدينهم وخوفاً على أولادهم من "إفساد أخلاقهم ودفعهم إلى الابتعاد عن كنيستهم".
يُسمى المهاجرون الأوائل إلى أمريكا باسم "الحجاج"، وبينما كانوا يحلمون بكسب المال، أرادوا أن يلوذوا بدينهم خوفاً من الكنيسة الإنجليزية التي انفصلوا عنها.
وفي الواقع توجد عدة أسباب قوية دفعت مجموعة من المهاجرين الأوائل للسفر من أوروبا عام 1620 عبر المحيط الأطلسي على أمل بناء حياة جديدة في أمريكا.
ولفهم دوافعهم، يجب قراءة التغيرات الدينية التي شهدتها إنجلترا حتى قبل اكتشاف ما كان يُسمى "العالم الجديد".
كانت إنجلترا أمة كاثوليكية رومانية حتى عام 1534، أي عندما نصّب الملك هنري الثامن
(1509 -1547) نفسه رئيساً لكنيسة وطنية جديدة تسمى كنيسة إنجلترا.
وعلى الرغم من أنه وابنته الملكة إليزابيث الأولى (1558-1603)، غيرا بعض الأشياء التي جعلت كنيسة إنجلترا مختلفة عن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، شعر عدد قليل من الناس أن الكنيسة الجديدة احتفظت بالعديد من ممارسات الكنيسة الرومانية.
دعا هؤلاء إلى العودة إلى إيمان أبسط وأشكال عبادة أقل تنظيماً؛ باختصار، أرادوا العودة إلى العبادة كما فعل المسيحيون الأوائل.
كان هذا الرأي خطيراً جداً في إنجلترا في القرن السابع عشر، لأنه كان من غير القانوني أن تكون جزءاً من أي كنيسة أخرى غير كنيسة إنجلترا، فغادر بعض هؤلاء الانفصاليين إنجلترا خوفاً على حياتهم.
الهجرة الأولى إلى هولندا العلمانية
ولكن على الرغم من شيوع الاعتقاد بأنَّ هؤلاء المهاجرين الإنجليز المعروفين باسم "الحُجّاج" فرّوا من إنجلترا بحثاً عن الحرية الدينية بعد انفصالهم عن كنيسة إنجلترا، لم تكن الحرية الدينية شغلهم الشاغل.
فقبل أن يعبروا المحيط، كان هؤلاء الانفصاليون الإنجليز أو المهاجرون الأوائل وجدوا الملاذ الآمن في مدينة "لايدن" الهولندية بعد مغادرتهم إنجلترا على متن سفينة "ماي فلاور" (Mayflower) عام 1608.
تمتّع الحُجّاج بالحرية الدينية وعاشوا في سلام بتلك المدينة الهولندية، وذلك وفقاً لواحد منهم يُدعى إدوارد وينسلو.
يقول سايمون تارغيت، المؤلف المشارك لكتاب " New World, Inc: The Making of America by England's Merchant Adventurers": "لم يكن لدى الحُجّاج أي سبب يدفعهم لمغادرة الجمهورية الهولندية من أجل الذهاب إلى أمريكا بحثاً عن التسامح الديني لأنَّهم كانوا قد وجدوه بالفعل. لذا، يتعيَّن علينا البحث عن أسباب أخرى ربما دفعتهم للمخاطرة وعبور المحيط الأطلسي للوصول إلى هذا العالم الجديد– كانت التجارة أحد الأسباب الرئيسية وراء ذلك".
معاناة الحجاج من الفقر في هولندا
هاجر الحُجّاج من هولندا لأسباب اقتصادية مثل عشرات الملايين من الوافدين الجُدد إلى أمريكا.
لم يُحقّقوا منافع حياتية تتجاوز حريتهم الدينية بعد العمل لأكثر من 10 سنوات في مجال صناعة النسيج بمدينة لايدن، وعانى المزارعون من الفقر وكانوا يعملون ساعات طويلة مقابل أجر زهيد في مجال الغزل والنسيج وصناعة الملابس.
لم يستطع المهاجرون الأوائل إقناع بقية زملائهم الانفصاليين بمغادرة إنجلترا والانضمام إليهم في لايدن بسبب تلك الصعوبات الاقتصادية، بغض النظر عن مدى حرياتهم الدينية.
ونقل عن موقع History عن ويليام برادفورد، أحد زعماء الحُجّاج: "البعض فضَّل السجن في إنجلترا على السفر للتمتّع بحريته الدينية في هولندا وعيش هذه المعاناة الاقتصادية".
ثم تضاءلت الآفاق الاقتصادية للحُجّاج مع انهيار سوق الصوف، بالإضافة إلى أنَّ استقرار ملاذهم الآمن بات مهدداً مع اندلاع حرب الثلاثين عاماً في أوروبا والنهاية الوشيكة لهدنة استمرت 12 عاماً بين إسبانيا والجمهورية الهولندية.
تخوف الحجاج على أخلاق أولادهم
وبينما تراجعت أعداد الحُجّاج، ازدادت مخاوفهم من أنَّ المجتمع الهولندي العلماني، الذي تسامح مع معتقداتهم الدينية، تسبّب أيضاً في إفساد أخلاق أطفالهم ودفعهم إلى الابتعاد عن كنيستهم وهويتهم الإنجليزية.
اشتكى برادفورد من أنَّ "العديد من أبنائهم رضخوا لإغراءات مدينة لايدن المتنوعة وانجرفوا إلى مسارات فاحشة وخطيرة".
يقول سايمون تارغيت: "أراد الحُجّاج أن يكون أبناؤهم مواطنين إنجليزيين وليسوا هولنديين. وبينما لم يعد بإمكانهم العودة إلى إنجلترا لأسباب دينية، اتّجهت عيون الحجاج نحو عبور المحيط الأطلسي إلى أمريكا، حيث كان التجار الإنجليز يموّلون إنشاء مستعمرات إنجليزية على مدار عقود".
ويضيف: "استطاع الحُجّاج التمتّع بحريتهم الدينية في أمريكا، فضلاً عن تحقيق المزيد من الاستقرار الاقتصادي مع الحفاظ على هويتهم الإنجليزية". وقد كتب برادفورد أنَّ الحُجّاج اعتقدوا أيضاً أنَّ هذا العالم الجديد منحهم "فرصة التبشير المسيحي للأمريكيين الأصليين ونشر تعاليم المسيح في تلك الأجزاء النائية من العالم".
انضمام الحُجّاج إلى شركات هادفة للربح
أنشأت الشركات الساعية للربح أول بؤر استيطانية تجارية لإنجلترا في أمريكا، على غرار مستوطنة "جيمستاون" التي أنشأتها شركة تُدعى "فيرجينيا".
أراد المستثمرون تحقيق الأرباح أكثر من دعم الرسالة الدينية للحُجّاج باعتبارهم مرشحين مثاليين لإنشاء مستعمرة إنجليزية دائمة في أمريكا لأنَّهم كانوا مترابطين ومثابرين ومعتادين على تحمُّل الصعاب.
وبعد حصول المهاجرون الأوائل على امتياز من شركة "فيرجينيا" لإنشاء مستوطنة في نطاق ولايتها القضائية، قدَّمت مجموعة مكوّنة من 70 رجل أعمال في لندن، أُطلق عليهم اسم "التجار المغامرون" (Merchant Adventurers) رأس المال اللازم لتمويل هذا المشروع من خلال شراء أسهم في شركة مساهمة.
واصل هؤلاء الداعمون تمويل رحلات نقل المهاجرين الإنجليز إلى أمريكا على متن سفينة "ماي فلاور" لمدة عام كامل.
وتوقّعت مجموعة "التجار المغامرون" عائداً على استثماراتهم واشترطوا أنَّ يعمل الحُجّاج لدى الشركة خلال الـ7 سنوات الأولى لهم في أمريكا.
الهجرة الثانية إلى الأرض الجديدة
حصل كل مستوطن فوق سن 16 عاماً على سهم واحد مقابل الهجرة إلى أمريكا والعمل في الأرض، التي ستكون ملكاً له، إلى جانب أي أرباح مستقبلية بعد انتهاء عقد العمل الذي مدته 7 سنوات.
ومن أجل تمويل رحلات سفينة "ماي فلاور"، أُجبر الحُجّاج على احتضان زملائهم المهاجرين لأسباب اقتصادية، وليس لمعتقداتهم الانفصالية.
شكَّل هؤلاء "الغرباء"، كما سماهم الحُجّاج، نصف عدد رُكّاب سفينة "ماي فلاور".
جادل هؤلاء "الغرباء" بأنَّهم لم يعودوا ملزمين بميثاق شركة "فيرجينيا" بعد أن رست "ماي فلاور" في أقصى شمال أمريكا بماساتشوستس في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1620، الأمر الذي دفع زعماء رحلات الحج إلى صياغة ميثاق "ماي فلاور" لوضع قواعد الحكم الذاتي وقمع أي تمرد محتمل.
بنود الميثاق:
يبقى المستعمرون رعايا مخلصين للملك جيمس، على الرغم من حاجتهم إلى الحكم الذاتي
ينشئ المستعمرون ويسنون "قوانين ومراسيم وأعمالاً ودساتير ومكاتب …" لصالح المستعمرة، ويلتزمون بتلك القوانين.
يشكل المستعمرون مجتمعاً واحداً ويعملون معاً لتعزيزه
يعيش المستعمرون وفقًا للإيمان المسيحي
المهاجرون الأوائل والبدايات الصادمة
لكن بعدما وطئ المهاجرون الأوائل الأراضي الجديدة، لم يكن الأمر حلماً وردياً، إذ واجهت الشركة الناشئة بداية شاقة على غرار تربة منطقة نيو إنغلاند التي أُجبر الحجاج على زرعها.
تمكّنت مستعمرة بليموث بالكاد من النجاة بعد أول شتاء قاسٍ في أمريكا، وعادت سفينة "ماي فلاور" إلى إنجلترا خالية من السلع والبضائع، وهذه كانت العلامة الأولى لسلسلة أحداث مؤسفة.
يقول تارغيت: "لم يشعر المستثمرون الأوائل بالرضا عمَّا كان يرسله الحُجّاج إلى وطنهم، إذ أرادوا منهم إرسال الفراء والأخشاب والأسماك. كانت السفن كثيراً ما تتعرّض إما للغرق أو للهجوم من القراصنة، لذا لم يحصل المستثمرون قط على منافع مقابل الأموال التي دفعوها".
حقّقت مستعمرة بليموث أخيراً مكاسب مالية بفضل فراء حيوان القندس، الذي زاد عليه الطلب بصورة كبيرة في إنجلترا لصنع القبعات وغيرها من ملحقات الأزياء الفاخرة.
الدين وحيوان القندس دعامتا المستعمرة
بدوره كتب المؤرخ جيمس تروسلو آدامز: "تمثّلت الدعامتان الأساسيتان لتلك المستعمرة الشابة في الكتاب المقدس وحيوان القندس. أنقذت الدعامة الأولى روحها المعنوية ومبادئها الأخلاقية في حين اضطلعت الدعامة الثانية بدور سداد ما عليها من استحقاقات مالية".
ومع ذلك، أدّى وصول المسيحيين البوريتانيين وإنشاء مستعمرة خليج ماساتشوستس على الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية في ثلاثينيات القرن الـ17 إلى زيادة المنافسة على فراء القندس وخفض أرباح الحُجّاج إلى مستوى متدنٍّ.
لم يستطع الحُجّاج سداد ديونهم حتى عام 1648، وواجهت مستعمرة بليموث في نهاية المطاف نفس مصير العديد من الأنشطة التجارية المتعثرة، حيث اُستنزفت من كيانات تجارية أكبر وأنجح حتى دُمجت مع مستعمرات أخرى لتشكيل مقاطعة خليج ماساتشوستس في عام 1691.