على مر التاريخ سمعنا كثيراً عن أولئك الذين ادعوا أنهم كانوا تجسيداً حياً للمسيح وجمعوا حولهم عدداً من المريدين.. لكن من بين هؤلاء المدعين لم تظهر سوى امرأة واحدة هي آن لي.
لم تكتفِ آن لي بالادعاء بأنها تجسيد للمسيح وأنها تتلقى رسائل ورؤى من الله وأن الوحي يزورها بانتظام، بل أسست أيضاً طائفة دينية عرفت باسم "الهزازين" الذين كانوا يمتنعون عن ممارسة العلاقات الجنسية حتى في إطار الزواج، ويتخذون من الرقص سبيلاً للعبادة والتخلص من الخطايا.
آن لي.. طفولة فقيرة وطائفة دينية تغير قدرها
لم تتلقَّ آن لي التي وُلدت عام 1736 في مانشستر بإنجلترا، أي نوع من التعليم، فقد نشأت في أسرة فقيرة لأم متدينة جداً وأب كادح يعمل حداداً في النهار وخياطاً في الليل.
ومنذ طفولتها بدأت آن بالعمل أيضاً، فقد عملت في مصنع للقطن في البداية ثم أصبحت طاهية في مستوصف مانشستر إلى أن تغير قدرها بانضمامها لطائفة دينية أسسها الخطيب جيمس واردلي في عام 1758.
كان أتباع تلك الطائفة يؤمنون بأنه لا يمكن الوصول إلى القداسة الكاملة إلا عن طريق التخلي عن العلاقات الجنسية، وكانوا يلجؤون إلى الرقص والاهتزاز بقوة لتطهير الجسد من الخطيئة بقوة الروح القدس.
آن تجبر على الزواج
بسبب تدين آن وانتمائها لتلك الطائفة، رفضت فكرة الزواج تماماً وكانت تشعر بالاشمئزاز من العلاقات الجنسية، وبقيت دون زواج حتى سن متأخرة وفقاً لمقاييس ذلك العصر لكن والدها في نهاية الأمر أجبرها على الزواج وهي في الخامسة والعشرين من عمرها.
حملت آن أربع مرات وقد توفي جميع أطفالها وهم لا يزالون في مرحلة الرضاعة، وساهمت تلك التجارب المؤلمة التي مرّت بها في زيادة كرهها للزواج وتبني قناعات دينية راديكالية فرضتها على أتباعها لاحقاً وتتضمن رفض الزواج والدعوة إلى العزوبية والامتناع عن ممارسة العلاقات الجنسية.
72 لساناً ورؤى ورسائل من الله
بدأت آن بممارسة نشاطها كداعية دينية بعد موت أطفالها الأربعة، وكانت من المبشرين بشأن المجيء الثاني الوشيك للمسيح، ومن مهاجمي الخطيئة بشكل جريء وعلني.
لكنها لم تكتسب شهرة في كافة أرجاء إنجلترا إلا عندما بدأت بالحديث عن الرؤى والرسائل التي ادعت بأنها تلقتها من الله، وكان مفادها أن العزوبة والاعتراف بالخطيئة هما الطريق الوحيد الحقيقي للخلاص وبذلك وحده سيصبح من الممكن تأسيس ملكوت الله على الأرض.
كثيراً ما تم سجن آن بتهم التجديف لكن في كل مرة كان أتباعها يتزايدون، وأصبحت تمتلك قوة حقيقية بسبب القصص التي ترويها "للمؤمنين" بها.
فقد ادعت أنها تستطيع صنع المعجزات، والهرب من الموت، وقالت إنها تحدثت مع رجال دين من الكنيسة المؤسسة لأربع ساعات كاملة بـ72 لساناً.
الهزازون في الولايات المتحدة
بالرغم من أن شهوداً تحدثوا عن معجزات آن التي تتضمن شفاء المرضى، وبالرغم من أن المرأة أصرت على أنها تملك نوعاً من القداسة، إذ أطلقت على نفسها اسم "آن الكلمة" و"الأم آن"، فإنها لم تستطع أن تنقذ نفسها من السلطات التي اعتقلتها مراراً وتكراراً.
فقد احتجزت السلطات الإنجليزية الأم آن عدة مرات ما دفعها في النهاية إلى التوجه نحو أمريكا هرباً من "الاضطهاد"، مدعية أن الوحي هو من أمرها بذلك.
وهكذا توجهت آن في عام 1774 إلى مدينة نيويورك برفقة فرقة "مختارة" أمرها الوحي أيضاً باصطحابها حسب ما قالت، وقد تضمنت تلك الفرقة أخاها وزوجها الذي هجرها لاحقاً وجون هوكنيل، وهو أحد الأثرياء الذي وفر الأموال للرحلة وبضعة مؤمنين آخرين.
مكث المؤمنون بالأم آن نحو 5 سنوات في مدينة نيويورك، بعد ذلك اشترى هوكنيل أرضاً في بلدة ووترفليت ليستقر فيها أولئك المؤمنون الذين أطلقوا على أنفسهم اسم Shakers أو "الهزازون".
كسوف الشمس وادعاء تجسيد المسيح
في تلك البلدة الصغيرة بدأ مجمع الهزازين بالنمو والازدهار والتوسع، وقد أطبقوا على أنفسهم هذا الاسم لأنهم كانوا يعتمدون على الهز والارتعاش كنوع من العبادة التي تخلص أجسادهم من الخطايا.
وقد وصل هذا المجتمع بقيادة آن لي إلى ذروة الشهرة، وفي يوم الظلام الشهير في مايو 1780 عندما اختفت الشمس وكان الظلام شديداً لدرجة أن الناس كانوا يحتاجون الشموع في وضح النهار ليتمكنوا من الرؤية.
واستغلت آن لي كشوف الشمس ذاك لتجمع أتباعها مدعية أنها ستحيي ضوءاً جديداً بقدراتها، ما حدث بعد ذلك أن ضوء الشمس انبثق من جديد، وبالرغم من أن آن لم يكن لها علاقة بالموضوع من قريب أو بعيد فإن تلك الحادثة أثبتت لأتباعها أنها تتمتع بقدرات خارقة.
بعد تلك الحادثة انطلقت البعثات التبشيرية من بلدة ووترفليت إلى المدن والبلدات المجاورة، حيث كانت أعداد "الهزازين" تزداد أكثر فأكثر.
ومع هذه الأعداد المتزايدة أعلنت آن عن نفسها على أنها التجسيد الأنثوي للمسيح، وبأنها "المجيء الثاني" المنتظر له، وقد كان ذلك الإعلان غريباً وفريداً لدرجة أن آن لي هي أول وآخر امرأة في التاريخ تدعي أنها تجسيد للمسيح.
ماتت على سريرها قبل أن تتم عامها الخمسين
بالرغم من أن أتباع آن كانوا في ازدياد فإن مناهضيها كانوا كثراً أيضاً، فقد كانت أفكارها راديكالية للغاية بالنسبة لكافة المسيحيين، لا سيما أنها دعت إلى إبقاء الذكور والإناث منفصلين تماماً لتجنب أي نوع من الإغراء الذي قد يؤدي إلى أعمال نجسة، وقد كانت بالنسبة لأتباعها تجسيداً للمسيح بصورة أنثوية الأمر الذي لم يكن مقبولاً لدى الجميع.
ولم تمر تلك الأفكار المتطرفة مرور الكرام بالنسبة لمعظم الناس، فقد واجه الهزازون كثيراً من أعمال العنف، حتى إن آن نفسها تعرضت للضرب عدة مرات في جولاتها التبشيرية، مع ذلك لم يتم اعتقالها أو تعذيبها أو أي شيء من هذا القبيل، بل توفيت في النهاية على سريرها عام 1784 عن عمر يناهز 48 عاماً.