لا يزال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يغرد على تويتر طاعناً بنزاهة الانتخابات التي حُسمت لصالح منافسه الديمقراطي جو بايدن، وبالرغم من أنه يفترض أن يتسلم الأخير رئاسة الولايات المتحدة بشكل رسمي في مطلع يناير/كانون الثاني، فإن المؤشرات تدل على أن ترامب قد لا يلتزم بالانتقال السلمي للسلطة.
وفي حال حدث ما يتوقعه بعض المحللين السياسيين، ورفض ترامب التنازل عن منصبه بعد حل جميع المنازعات القضائية سيكون أول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة يرفض التنازل عن منصبه بعد خسارة الانتخابات، وفقاً لما ورد في مجلة National Geographic الأمريكية.
لكن، كيف بات التنازل تقليداً انتخابياً؟ ومن هم الخاسرون الذين تنازلوا بروح رياضية ومن هم أولئك الذين تنازلوا بمرارة وحسرة، وفي النهاية لماذا يعتبر التنازل مهماً؟ إليكم ما تودون معرفته:
الانتخابات الأمريكية لم تشهد نزاعاً قط
شهد تاريخ الولايات المتحدة بضعة من السباقات الانتخابية المريرة، كان أحدثها في عام 2000، عندما طلب المرشح الديمقراطي آل غور من المرشح الجمهوري جورج دبليو بوش التنازل والاعتراف بالهزيمة في الساعات الأولى بعد ليلة الانتخابات.
مع ذلك لم تشهد الولايات المتحدة نزاعاً بعد حسم النتائج قط، فحتى آل غور تراجع لاحقاً عن طلب استحقاقه عندما باتت نتائج المنافسة بينه وبين بوش شديدة التقارب.
ومع أن المحادثة الأولى بينهما كانت ودودة، اتسمت المحادثة الثانية بالتوتر، وتراشق الطرفان الاتهامات التي دفعت آل غور لأن يقول عبارته الشهيرة لمنافسه جورج دبليو بوش: "ليس هناك ما يدعو لأن تكون فظاً".
وبطبيعة الأحوال، لم يرفض أي مرشح رئاسي قط الاعتراف بالهزيمة بمجرد الانتهاء من إحصاء جميع الأصوات وحل جميع المنازعات القضائية.
في المئة عام الأولى من تاريخ البلاد أو نحو ذلك، لم يكن التنازل جزءاً من العملية الانتخابية على الإطلاق، لكنه بات لاحقاً تقليداً ضرورياً اتبعه جميع المرشحين، وإن كان بعضهم فعله على مضض وبطريقة أقل قبولاً من الآخرين.
كيف أصبح التنازل تقليداً انتخابياً
صار الانتقال السلمي للسلطة قاعدةً منذ عام 1800، عندما أصبح ثاني رئيس للبلاد جون آدامز أول من يخسر إعادة انتخابه، وغادر واشنطن العاصمة بهدوء في الصباح الباكر مستقلاً عربة الجياد؛ كي يتجنب حضور مراسم تنصيب خليفته توماس جفرسون.
أرسل بعض المرشحين الرئاسيين الأوائل خطابات تهنئة إلى منافسيهم الفائزين، لكن التنازلات الرسمية لم تصبح قاعدة انتخابية قبل عام 1896، عندما هزم المرشح الجمهوري وليام ماكينلي منافسه الديمقراطي وليام جينينغز بريان.
وفي روايته حول الحملة الانتخابية في مذكرات كتبها لاحقاً، كتب بريان أنه بدأ تأهيل نفسه للاعتراف بالخسارة في الحادية عشرة مساء ليلة الانتخابات، وهو اعتراف صار أكثر تأكيداً في الأيام اللاحقة عندما أنهت الولايات إحصاء الأصوات الانتخابية.
وفي ليلة الخميس، علم بريان أن هزيمته كانت مؤكدة فأرسل على الفور برقية إلى ماكينلي، مهنئاً إياه وقائلاً: "لقد طرحنا القضية أمام الشعب الأمريكي، وإرادة الشعب هي القانون".
وفي حين اعتبر بريان تصرفه أمراً بديهياً، إلا أن جمهور الشعب الأمريكي عدها حدثاً استثنائياً وهكذا وُلد تقليد جديد يلزم جميع الخاسرين بتهنئة منافسيهم.
وقد كتب بريان عن ذلك: "هذه الرسائل المتبادلة حظيت بتعليقات كثيرة في ذلك الوقت، ومع ذلك لا أعرف لماذا توجب أن تُحسب شيئاً استثنائياً. لم نكن نتقاتل، بل وقفنا بوصفنا ممثلين لأفكار سياسية مختلفة، كان على الناس أن يفاضلوا بينها".
أمثلة كثيرة عن التنازل عبر تاريخ الانتخابات الأمريكية
منذ ذلك الحين، تنازل المرشحون الخاسرون أمام منافسيهم، حتى إن كانوا رؤساء سابقين بالفعل.
على سبيل المثال، تنازل الرئيس الجمهوري ويليام هوارد تافت في عام 1912 واعترف بالهزيمة في الـ11 مساء في ليلة الانتخابات أمام المرشح الديمقراطي آنذاك وودرو ويلسون، بينما في عام 1932 أرسل الرئيس الجمهوري هربرت هوفر تلغراف تهنئة إلى المرشح الديمقراطي الفائز بالانتخابات فرانكلين ديلانو روزفلت، في اليوم التالي لفوز روزفلت، الذي شغل قبل تولي الرئاسة منصب حاكم ولاية نيويورك.
وتعهد هوفر بأن يكرس نفسه "لتقديم كل جهد مفيد ممكن". (ومع ذلك، صار هوفر في أعقاب الانتخابات ناقداً صريحاً لسياسات روزفلت).
وفي عام 1960، أكد نائب الرئيس الجمهوري نيكسون خسارته أمام المرشح الديمقراطي جون كينيدي عندما أحصى أصوات المجمع الانتخابي وأكد عليها، بموجب ترؤسه مجلس الشيوخ.
ومع أن ولاية هاواي أرسلت خطابين موقعين من حاكم الولاية أحدهما يدّعي أن نيكسون حصل على أصوات الولاية بينما يدعي الآخر أن كينيدي هو الفائز بها، وذلك بعد الطعن على النتيجة وإعادة فرز الأصوات، طلب نيكسون، وحصل على موافقة بالإجماع، أن تُحسب الولاية لمنافسه نظراً إلى أنها لم تكن ستغير شيئاً في نتيجة الانتخابات.
خاسرون تنازلوا على مضض
لكن المرشحين الخاسرين لم يكونوا دائماً لطفاء، أو معترفين بالخسارة في الوقت الملائم.
في عام 1916، استغرق الأمر أسبوعين من المرشح الجمهوري تشارلز إيفانز هيوز لتهنئة الرئيس الديمقراطي وودرو ويلسون بعد أن فاز الأخير في إعادة انتخابه خلال سباق متقارب للغاية استغرق يومين لإحصاء الأصوات، التي أوحت في البداية بأن هيوز هو الأقرب للفوز.
وفي عام 1944، اعترف المرشح الجمهوري توماس ديوي بهزيمته أمام الرئيس روزفلت عبر الراديو بعد يوم الانتخاب.
لكنه بات المرشح الوحيد منذ بريان، الذي لم يتصل بمنافسه ولم يرسل له برقية.
وبحسب ما كتب المؤرخ سكوت فاريس، كان روزفلت غاضباً بشدة من هذا الازدراء لدرجة أنه أرسل برقية إلى ديوي لاحقاً تقول: "أشكرك على تصريحك، الذي سمعته عبر البث منذ دقائق".
امتنع مرشح جمهوري آخر، وهو باري جولدووتر، لمدة وجيزة عن الاعتراف بهزيمته أمام الديمقراطي ليندون جونسون حتى اليوم الثاني ليوم الانتخابات من عام 1964، برغم أن النتائج كانت واضحة في الليلة السابقة وتوقع الأمريكيون على نطاق واسع بأن جولدووتر سوف يتنازل.
وفي كلماته إلى جونسون، تعهد جولدووتر بأنه سيساعد في "جعل أمريكا أكثر ازدهاراً ونماءً"، لكنه ذكّر خصمه كذلك بأن الحزب الجمهوري يبقى "حزب المعارضة عندما تُستدعى المعارضة".
انتخابات متنازع عليها
حتى الانتخابات الرئاسية الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الولايات المتحدة، انتهت بالاعتراف بالهزيمة، حتى قبل أن يصبح التنازل قاعدة.
ففي عام 1860، استوعب المرشح الديمقراطي ستيفن دوغلاس أن انتخاب المرشح الجمهوري المناهض للرق أبراهام لينكولن يمكن أن يُغضب الجنوبيين، بل ويحتمل أن يكون مصدر الإلهام لانطلاق الثورة.
وبدلاً من إلهاب هذه المشاعر، شرع في جولة حول الولايات الجنوبية مطالباً بالوحدة.
وقال لمؤيديه: "لينكولن هو الرئيس القادم. يجب علينا أن ننقذ الاتحاد. سوف أذهب جنوباً".
غير أنه في نهاية المطاف، انفصلت 11 ولاية عن الاتحاد قبل تنصيب لينكولن، لتنطلق معها الحرب الأهلية في أمريكا.
وفي عام 1876، فاز الديمقراطي صامويل تيلدن بالتصويت الشعبي لكنه خسر بأصوات المجمع الانتخابي أمام المرشح الجمهوري رذرفورد هايز في واحدة من أشد الانتخابات المتنازع عليها في تاريخ الولايات المتحدة.
وفي خضم مزاعم بوجود تزوير لأصوات الناخبين، حلّت لجنة مكونة من الحزبين مشكلة الانتخابات عن طريق منح الفوز إلى هايز مقابل وعد بأن القوات الفيدرالية سوف تغادر الجنوب، لتنهي فعلياً عصر إعادة الإعمار الذي استمر لـ12 عاماً مضطربة من الجهود التي أعقبت الحرب الأهلية من أجل إعادة دمج الولايات الكونفدرالية الأمريكية التي انفصلت قبل الحرب الأهلية، وحماية حقوق السود المحررين.
في خطاب أُلقي في يونيو/حزيران عام 1877، أعلن تيلدن خسارته نتيجة الفساد والتزوير، لكنه أخبر مؤيديه أن عليهم أن يحسنوا الظن.
إذ قال: "الجمهورية سوف تعيش. ومؤسسات آبائنا لن تنتهي بالخزي. وسيادة الشعب يجب أن تُنقذ من هذا الخطر وأن يعاد ترسيخها".
وحتى انتخابات عام 2000 التي استغرقت وقتاً طويلاً -والتي امتدت لـ 3 يوماً من إعادة فرز الأصوات، والتنازع على أصوات محذوفة من أوراق مثقوبة، وإثارة النزاعات القضائية بكل الطرق أمام المحكمة العليا- انتهت في النهاية بمذكرة تصالحية.
أوقفت المحكمة العليا إحصاء الأصوات في فلوريدا في 12 ديسمبر/كانون الأول، لتمنح فعلياً الفوز إلى بوش، الذي كان متقدماً بالفعل.
أدلى آل غور ببيان تنازل متلفز من مكتبه في البيت الأبيض، وأعلن أن "الحقائد الحزبية يجب الآن تنحيتها جانباً".
ما الذي يحدث إذا رفض رئيس التنازل؟
نظراً إلى أنه ليس جزءاً رسمياً من عملية الانتخابات، فليس هناك عواقب قانونية إذا رفض مرشح رئاسي مثل ترامب التنازل.
فالتنازل ليس عقداً ملزماً. ورفض التنازل لا يعني بالضرورة أن الانتخابات سوف تبقى معلقة.
إذا طعن مرشح رئاسي في النتائج، توجد عملية رسمية بمواعيد نهائية محددة تُتوج بشهادة بالنتائج الرسمية من الكونغرس.
في عام 2020، يجب أن تحل الولايات أي نزاع بحلول 8 ديسمبر/كانون الأول كي يتمكن المجمع الانتخابي من الاجتماع والإدلاء بأصوات الولاية في أماكن يحددها المجلس التشريعي للولاية في 14 ديسمبر/كانون الأول.
توجد احتمالية بعيدة تفيد بأن المرشح الخاسر قد يرفض قبول الشهادة، مما يمكن أن ينتج عنه أزمة دستورية، أو أن رئيساً حالياً قد يرفض مغادرة البيت الأبيض.
وقد تعرضت حملة بايدن لمسألة عدم مغادرة ترامب البيت الأبيض، وأصدرت بياناً بأن "حكومة الولايات المتحدة قادرة تماماً على مرافقة المتجاوزين إلى خارج البيت الأبيض".
لكن مع ذلك من المهم لأي مرشح رئاسي أن يعترف بالهزيمة حتى إذا لم يكن هناك عواقب قانونية، لأن الالتزام بالقواعد الانتخابية الراسخة ساعدت في التأكيد على ديمقراطية الولايات المتحدة، حتى في خضم أشد الانتخابات فوضى وانقساماً.
يقول جون فايل، عميد قسم العلوم السياسية في جامعة ولاية تينيسي: "عندما يتعلق الأمر بذلك، فليس الجيش وليست قوات البحرية هما ما يبقيان على وحدة الولايات المتحدة. بل إنها الفكرة بأننا ملتزمون معاً عن طريق مبادئ محددة عظيمة وبأن أوجه التشابه بيننا أكثر إلزاماً من أوجه الاختلاف".