حتى في حالات ضعفها تميزت القسطنطينية عن غيرها من المدن بقدرتها على صد جميع الهجمات البحرية مهما بلغت قوتها، وذلك بسبب ابتكار البيزنطيين لاستراتيجية دفاعية فريدة من نوعها، تتمثل في "سلاسل القسطنطينية العظيمة"، التي كانت سبباً في هلاك العديد من الأساطيل البحرية على مدار قرون خلت، حتى جاء السلطان العثماني محمد الفاتح واستطاع تجاوزها بحيلة عبقرية.
فكيف استطاعت القسطنطينية الصمود كل تلك المدة، وكيف تغلبت على أساطيل تفوقها في العدد والعدة؟
وما هي حيلة السلطان العثماني محمد الثاني التي مكنته من فتح القسطنطينية؟
قرن القسطنطينية الذهبي
قبل أن نبدأ بالحديث عن هذه الاستراتيجية الدفاعية الفريدة، سنعطيكم لمحة سريعة عن قرن القسطنطينية الذهبي الذي شُيدت تلك السلاسل لحمايته.
يُعد القرن الذهبي مصباً لنهرين رئيسيين ومدخلاً لمضيق البسفور، ويعتبر علامة مميزة لشبه الجزيرة التي تقع فيها القسطنطينية (إسطنبول حالياً).
ولم يبدأ تاريخ القرن الذهبي الغني مع بداية الإمبراطورية البيزنطية وبناء القسطنطينية، إذ تخبرنا الأبحاث الأثرية أن القرن الذهبي كان خليجاً مزدحماً منذ عام 6700 قبل الميلاد، ففي عام 2008، أثناء تشييد نفق مرمراي ومحطة قطار الأنفاق يني كابي، اكتشف علماء الآثار مستوطنة ومقبرة تعودان إلى العصر الحجري الحديث.
مع ذلك فقد بلغ القرن الذهبي ذروة أهميته في القرن السابع قبل الميلاد تحديداً، ويعتقد بعض الباحثين أن الخليج يستمد لقبه "الذهبي" من حقيقة أنه جلب ثروة عظيمة للمدينة نظراً لموقعه الاستراتيجي الهام، وفقاً لما ورد في موقع Ancient Origins الأمريكي.
سلاسل القسطنطينية العظيمة: حاجز حديدي قوي ومترابط
بقيت القسطنطينية عاصمة للإمبراطورية البيزنطية قرابة 16 قرناً، ما جعلها مركزاً هاماً تدور فيه معظم الأحداث الكبرى في التايخ.
وفي حين أن ممرها المائي (القرن الذهبي) كان مركزاً تجارياً حيوياً، فقد كان في الوقت ذاته أضعف مواضع المدينة التي كانت عرضة للهجمات البحرية من ثلاث جهات، لذا تعين على البيزنطيين تشكيل دفاعات بحرية استثنائية لحماية المدينة، ومن هنا برزت فكرة السلاسل البحرية.
إذ شيد البيزنطيون سلسلة ضخمة للغاية، من الممكن شدها عند الحاجة، لتشكل حاجزاً منيعاً يمنع السفن غير المرغوب فيها من الدخول إلى الخليج.
شُيّدت سلاسل القسطنطينية العظيمة من مئات الروابط الحديدية الثقيلة على مدخل خليج القرن الذهبي، وامتدت من برج يوجينيوس عند الجدران الخارجية للمدينة، وحتى ما يُسمى ببرج غلاطة، أو البرج العظيم، الواقع في الناحية الأخرى من الخليج. ويصل طولها الكامل عند فردها 750 متراً.
وكانت تلك السلاسل تتألف من 9 منحنيات أساسية، ترتكز على 10 نقاط دعم، نقطة عند كل من البرجين، و8 نقاط أخرى على زوارق هرمية كبيرة امتدت عبر خليج القرن الذهبي.
وقد صُنعت تلك الزوارق الضخمة من جذوع الأشجار، ورُبطت معاً بالصفائح الحديدية، لتشكل مع السلاسل حاجزاً منيعاً يحول دون دخول السفن إلى المدينة.
وتُشدد المصادر التاريخية على حجم السلاسل الضخم وأبعادها الهائلة، وإن كان هناك خلاف على الوزن الفعلي للسلاسل التي عملت بنظام معقد مبتكر من العجلات والبكرات.
كانت هذه السلاسل تعتبر إنجازاً معمارياً وهندسياً ضخماً، فقد كان تشييدها في ذلك العصر مهمة شاقة ومكلفة بلا شك.
إذ يشير بعض العلماء إلى أن هذه السلسلة "القديمة" تعود إلى أواخر الحقبة البيزنطية.
المسلمون يحاولون اختراق سلاسل القسطنطينية العظيمة
قبل سقوط القسطنطينية بعدة قرون، أثبتت السلاسل العظيمة أنها واحدة من أهم مزايا الاستراتيجات الدفاعية في منطقة البحر المتوسط.
وفي وقت بين العامين 717 و718 ميلادياً، شن المسلمون في عهد الدولة الأموية هجوماً حاسماً على القسطنطينية.
ومثّل أسطولهم القوي المتفوق عددياً أفضلية كبيرة، وواجه البيزنطيون -بقيادة الإمبراطور ليو الثالث الإيساوري- هزيمة محتملة، لولا وجود تلك السلاسل التي كانت جزءاً أساسياً في خطة البيزنطيين الدفاعية.
فعندما دخلت سفن المسلمين إلى خليج القرن الذهبي دون مقاومة وتوغل أسطولهم في الخليج وصار على مرأى من البيزنطيين، عملت الرياح والتيارات على تقريب السفن تدريجياً من حوائط المدينة.
وفي هذه اللحظة الحاسمة، أمر ليو برفع السلاسل، وبدأ المدافعون عن المدينة هجوماً مدمراً بالنيران الإغريقية شديدة الاشتعال.
والنيران الإغريقية هي مُركب قابل للاشتعال ينبعث من سلاح يقذف لهباً. ويعتقد بعض المؤرخين أنها تشتعل عند الاتصال بالمياه، وربما كانت مزيجاً من النفثا وأكسيد الكالسيوم.
فوجئ المسلمون بالنيران المشتعلة وعجزوا عن الهرب بسبب السلاسل الموصدة، الأمر الذي حسم المعركة لصالح البيزنطيين.
وقد شكلت تلك المعركة إلهاماً للكاتب البريطاني جورج مارتن في وصف معركة "خليج المياه السوداء" روايته "أغنية النار والثلج"، التي تحولت للمسلسل التلفزيوني الشهير "صراع العروش".
اختراق سلاسل القسطنطينية العظيمة كان ممكناً
مثلت سلاسل القسطنطينية عقبة كبيرة أمام أعداء الإمبراطورية البيزنطية، وكان على العديد من المهاجمين رسم استراتيجيات بديلة لتجاوز السلسلة.
في وقتٍ ما من أربعينيات القرن العاشر ميلادياً، شنّ إيغور بن روريك، أمير روسيا، هجوماً كبيراً على القسطنطينية.
وفي سبيل ذلك اعتمد بشكل كبير على أسطوله القوي، الذي عُرف به الروس المتأثرون بشعوب الفايكنجز.
لكن المثير للدهشة أن إيغور لم يقد أسطوله عبر البحر وإلى الطريق المؤدي للسلسة، بل بدلاً من ذلك حمل أسطوله براً.
وكان حمل الأساطيل شيئاً مارسه الروس باستمرار، ويعني تحميل سفنهم الحربية على جذوع ضخمة عبر البر، متجاوزين عادة طرقاً خطرة، أو مستغلين هذه الاستراتيجية كأفضلية ميدانية.
وفي الهجوم على القسطنطينية، كان الحمل ميزة كبرى لصالح إيغور، إذ من خلال التحرك براً وغمر سفنه في الطرف البعيد من القرن الذهبي، تمكن من تجاوز السلاسل الشهيرة دون حتى أن يقترب منها.
لكن بالرغم من ذلك، عجز إيغور بن روريك عن غزو القسطنطينية.
وصدق أو لا تصدق، دُمر أسطوله المتفوق عددياً بالكامل على يد قافلة سفن صغيرة أُضرمت النيران فيها عمداً.
فتح القسطنطينية
بقيت تلك السلاسل تصد الهجمات البحرية عن المدينة إلى أن فتحها العثمانيون بقيادة محمد الفاتح في العام 1453.
في تلك السنة، هاجم الأسطول العثماني القوي، بقيادة السلطان محمد الثاني، المدينة بكامل قوته بحراً في البداية، ولما حالت السلاسل دون دخولهم تنبه الفاتح إلى عدم جدوى الاستمرار بالهجوم البحري، وقرر حمل سفنه براً إلى الطرف الداخلي من الخليج، والذي لا يحتوي على تلك السلاسل.
وما بين 21 و22 أبريل/نيسان عام 1453، حُمل أسطول مكون من 70 سفينة عثمانية براً، ووُضع في المياه مجدداً على الجانب الآخر من الخليج، والذي لا يحتوي على السلاسل، وبذلك تمكن العثمانيون من فتح المدينة، في 29 مايو/أيار عام 1453 ميلادياً.
وعلى الرغم من ذلك، لا ينكر التاريخ أن سلاسل القسطنطينية العظيمة الممتدة بطول القرن الذهبي كانت ابتكاراً مذهلاً، وقد أثبتت أهميتها في تحصين المدينة لعدة قرون.