طوال السبعينيات، نفذ "كارلوس الثعلب" عمليات أمنية وعسكرية باسم منظمات يسارية فلسطينية ضد "الإمبريالية الأمريكية والرأسمالية"؛ وبينما رآه البعض بطلاً، كان في نظر آخرين إرهابياً.
استمرت إسرائيل وفرنسا والولايات المتحدة والعديد من الدول الأخرى، في مطاردته لمدة 20 عاماً لكنه كان يتمكن من الهروب في كل مرة، إلى أن سلمته السودان.
نُسِبت إليه على مر السنين 80 جريمة قتل على الأقل، ويبدو أنه كان يستمتع بشهرته وذكائه وقدرته على التخطيط والتخفي وتغيير ملامحه محيراً أجهزة المخابرات.
تروي هذه القصة رحلة رجل اختار الثورة والنضال، فارتكب عمليات اغتيال وتفجيرات أودته في السجن لما تبقى من حياته.
طفولة ماركسية بامتياز
وُلد إيليش راميريز سانشيز في 12 أكتوبر/تشرين الأول عام 1949 في كاراكاس بفنزويلا، وقد تدرب على الحرب في سن مبكرة، بحسب ما نشر موقع All That's Interesting.
اختار والده، خوسيه ألتاغراسيا راميريز نافاس، وهو محام ناجح وماركسي مخلص، تسمية أبنائه الثلاثة إيليش وفلاديمير ولينين؛ تكريماً لأول رئيس وزراء للاتحاد السوفييتي، بالرغم من احتجاجات إلبا، والدة الصبية الكاثوليكية.
تعلم راميريز سانشيز في بيته مبادئ الماركسية اللينينية ما أن تعلم الكلام. وكان مصدر فخر كبير لوالده عندما أتم قراءة السيرة الذاتية للينين مرتين قبل أن يبلغ العاشرة من عمره. كنتيجة للاهتمام الذي أبداه راميريس سانشيز بمعتقدات أبيه السياسية، أصبح بذلك الطفل المفضل.
تلقى راميريس سانشيز تعليمه المبكر في مدرسة معروفة بمقرراتها الدراسية اليسارية الراديكالية، وشارك في أعمال شغب واحتجاجات في مراهقته، قبل أن يتلقى تدريباً على يد حرب العصابات في كوبا بحسب ما يُزعم.
بحلول عام 1966، عندما كان راميريز سانشيز يبلغ من العمر 17 عاماً، كانت الحكومة الفنزويلية تزداد عنفاً تجاه المنشقين، تزامن هذا مع تداعي زواج والديه.
انتقلت الأم بالصبية الثلاث لاحقاً إلى لندن، وفي عام 1968، رتب والد راميريس سانشيز الأمور لابنه كي يتلقى تعليمه الجامعي في جامعة باتريس لومومبا في موسكو.
كانت الجامعة بمثابة ساحة تدريب للنشطاء السياسيين الراديكاليين، والقادة الثوريين، والمقاتلين المتمردين الذين تديرهم الحكومة السوفييتية، والتي كانت تأمل في أن يعود الطلاب إلى مواطنهم للتحريض على الثورة.
بانضباط صارم وتوقعات عالية من الجميع، لم يكن مفاجئاً أن يُطرد راميريس سانشيز، الذي فضل مطاردة الفتيات والاحتفال على المشاركة في الأنشطة السياسية. ربما كانت هذه نهاية إلييتش راميريس سانشيز، لكنها كانت مجرد البداية بالنسبة لكارلوس.
ميلاد كارلوس الثعلب في فلسطين
خلال السنوات التي قضاها في موسكو، فُتِن راميريس سانشيز بالقصص التي قصها عليه الطلاب الفلسطينيون عن النضال ضد إسرائيل. وخلص إلى أن هذا الصراع كان فرصة لتوجيه كراهيته للسلطة والرأسمالية، لذا سافر إلى لبنان في صيف عام 1970 لبدء التدريب مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (PFLP).
في معسكر التدريب، التقى راميريس وديع حداد، المقاتل المخضرم الذي آمن أن الدعم الدولي لإسرائيل لا يمكن محاربته إلا بالسلاح.
منذ البداية، التمس وديع موهبة في الشاب الفنزويلي، ومنحه الاسم الحركي "كارلوس"، بينما لقبته أجهزة المخابرات بكارلوس الثعلب.
بحلول عام 1973، اعتُبر كارلوس رسمياً أنه "إرهابي" يعمل لصالح الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إذ حاول اغتيال جوزيف سييف، عملاق تجارة التجزئة اليهودي في لندن، وحاول سرقة البنوك في فرنسا، وقصف الصحف، وحاول اختطاف الطائرات، وهو تكتيك مفضل لدى وديع حداد.
على مدى عامين، حقق كارلوس سجلاً حافلاً بالعنف، مهاجماً أي هدف إذا بدا متعاطفاً أو نافعاً لإسرائيل.
خلال هذا الوقت كان يعمل بشكل أساسي مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لكنه تعاون أيضاً مع الجيش الأحمر الياباني في عام 1974 لاحتلال السفارة الفرنسية في مدينة لاهاي الهولندية. وواصل تنمية صورته الأنيقة المتابعة لصيحات الموضة وأسلوب حياته المستهتر.
لكن كل ذلك لم يكن ليستمر إلى الأبد؛ ففي يونيو/حزيران 1975، ألقى ضباط المخابرات الفرنسية القبض على ميشال مخربل، مساعد كارلوس في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
اعترف مخربل عن كل اسم يعرفه، ووافق على قيادة آسريه إلى شقة كارلوس في باريس. عندما وصلوا، علم كارلوس أن أوان التسلية قد ولّى.
استضاف كارلوس الضباط ومخربل وقدم لهم المشروبات، قبل أن يطلق عليهم النار حتى الموت ويهرب إلى مقر الجبهة الشعبية في بيروت.
ترك وراءه نسخة من رواية "يوم الثعلب"، لمؤلفها فريدريك فورسيث التي صدرت عام 1971، وهو العام الذي خططت فيه مجموعة شبه عسكرية لقتل الرئيس الفرنسي شارل ديغول، والعام نفسه الذي وُلد فيه كارلوس، فاكتسب إعلامياً لقب كارلوس الثعلب.
حصار أوبك في فيينا عام 1975
متنقلاً من بيروت إلى ألمانيا الشرقية ثم إلى المجر، كان كارلوس الثعلب دائم التنقل. بحلول نهاية عام 1975، كان قد توصل إلى عملية من شأنها أن تصدم العالم وتدخل التاريخ بوصفها هجوماً إرهابياً نموذجياً.
وفي خطة وحشية وبسيطة وطموحة على السواء، خطط للسطو على اجتماع منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) في فيينا.
إذ اختطف 80 ممثلاً في فيينا كرهائن، بما في ذلك وزراء النفط في 11 دولة، بالتعاون مع فريق مكون من 6 نشطاء ألمان وفلسطينيين.
كان من المفترض قتل وزيري المملكة العربية السعودية وإيران، الموالين للولايات المتحدة في ذلك الوقت، على الفور، بينما يُفرَج عن الآخرين مقابل مبالغ مالية ضخمة بشكل فلكي باسم التحرير الفلسطيني.
بعد خضوعه لجراحة تجميلية وفقدان قدر كبير من الوزن، عبر كارلوس الحدود النمساوية في 21 ديسمبر/كانون الأول 1975، والتقى فريقه في فيينا. ومع مؤونة إمدادات مهربة من الأسلحة النارية والأمفيتامينات، توجهوا إلى مقر أوبك وسط المدينة.
سار كارلوس وفريقه عبر المدخل الأمامي وبدأوا بإطلاق الرصاص، ما أسفر عن مقتل ضابط شرطة وحارس أمن وموظف. قسم المهاجمون الرهائن إلى مجموعات وبدأوا حصاراً استمر طوال الليل.
أثناء هجوم فيينا، طلب كارلوس من دبلوماسي عراقي أن يخبر الشرطة بهويته، إذ قال إنه "كارلوس الشهير. إنهم يعرفونني". من الواضح أن القاتل الأنيق كان مسروراً بسمعته السيئة.
في النهاية، وافقوا على طلبه بالحصول على حافلة من شرطة فيينا وأطلق سراح بعض الرهائن. في حين توجه 41 أسيراً إلى المطار لاستقلال طائرة متجهة إلى الجزائر العاصمة.
بعدها، توجه فريق كارلوس إلى طرابلس، حيث اُطلِق سراح المزيد من الرهائن، قبل أن يعودوا إلى الجزائر العاصمة مرة أخرى.
هناك أقنع هواري بومدين، الرئيس الجزائري، كارلوس بتحرير الرهائن الأحد عشر الباقين، بمن في ذلك أحمد زكي يماني وجمشيد أموزكار، الوزيران السعودي والإيراني، مقابل الحصول على حق اللجوء.
وعندها، انتهت غارة أوبك بعد 48 ساعة فقط من بدايتها.
السودان تسلّم كارلوس الثعلب
من غير المعروف ما إذا كان كارلوس قد احتفظ بأي أموال فدية حازها من حصار أوبك. إذ يرجح أن المبلغ وصل إلى 50 مليون دولار فدية لتحرير وزيري النفط الإيراني والسعودي.
غضب حداد من كارلوس لعدم قتله يماني وأموزكار، وقرر طرده من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
بعد ذلك، يعتقد أن كارلوس ساعد في التخطيط لعملية اختطاف طائرة عنتيبي عام 1976. ومن المعروف أيضاً أنه نفذ حملة تفجير في فرنسا عندما ألقي القبض على ماجدالينا كوب، زوجته، وربما فجر مكاتب مجلة رفضت التراجع عن مقابلة أجرتها معه.
مرتحلاً بين المجر وفرنسا وألمانيا الشرقية والغربية وليبيا وسوريا والعراق واليمن وإيران، استقر كارلوس الثعلب أخيراً في الخرطوم بالسودان، حيث ظل بعيداً عن الأنظار بعد سنوات من الهجمات.
هناك، لحق به عملاء استخبارات فرنسية وإسرائيلية وأمريكية أخيراً في عام 1994، حيث دفعوا 50 مليون دولار للسلطات السودانية لتسليمه ونقلوه إلى باريس لمحاكمته.
وفي محاكمة عام 1997، أدين بقتل ضباط المخابرات الفرنسية في باريس عام 1975 وحكم عليه بالسجن مدى الحياة.
وفي عام 2001 أعلن إسلامه في السجن، ومن ثم تزوج محاميته الفرنسية إيزابيل كوتانت بيفر.
ثم حُكم عليه بالسجن المؤبد للمرة الثانية عام 2011 عندما حوكم في سلسلة تفجيرات وقعت في فرنسا عامي 1982 و 1983.
مثل كارلوس أمام المحكمة مرة أخرى في عام 2017 فيما يتعلق بهجوم نُفذ بقنبلة يدوية في عام 1974 في باريس.
في المحاكمة، حضر متأنقاً وقبّل يد محاميه وخطيبته إيزابيل كوتانت بيير. بالرغم من إقراره ببراءته إذ كان يدافع عما يظنه صحيحاً، حُكم عليه بالسجن المؤبد الثالث.
وفي إحدى محاكماته، أجاب كارلوس رئيس محكمة الجنايات الخاصة في باريس اوليفييه ليران الذي بدأ الجلسة بسؤاله عن هويته فأجاب: أنا ثوري محترف.
ولا يزال كارلوس محتجزاً في سجن كليرفو الفرنسي، حيث أجرى مراسلات مع الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز وأصدر كتاباً سماه "الإسلام الثوري"، دافع فيه عن أسامة بن لادن، كما برر وجهة نظره باستخدام العنف في ظروف معينة.
كما يقضي وقته في السجن بدراسة الفلسفة ومتابعة الأخبار، وعبّر عن تأييده للمتظاهرين الأوروبيين الذين يحتجون على إجراءات التقشف وجشع الشركات الكبرى.
حياته الشخصية
أنجب كارلوس وزوجته الأولى ماغدلينا كوب بعد قضائها بضع سنوات في السجن بفرنسا ابنة واحدة بعد أن توجه عام 1983 إلى دمشق ولحقت به ماغدلينا هناك.
ثم تزوج من أردنية بعد انتقاله إلى السودان عام 1993، لاحقاً طلق كوب وتزوج عام 2001 ثانية من محاميته الفرنسية إيزابيل كوتانت بيفر.
فضلاً إلى أنه مفلس تماماً ولولا أن زوجته إيزابيل تترافع عنه مجاناً لما وجد أحداً للدفاع عنه.
يصفه خبير شؤون الإرهاب في معهد العلاقات الخارجية والاستراتيجية بباريس فرانسو برنار هويغه، بأنه كان رمزاً للإرهاب اليساري الدولي. فكان يناضل في سبيل القضية الفلسطينية يوماً، وفي اليوم الثاني يقوم بزرع المتفجرات في قطارات بفرنسا. كان نجماً بشكل من الأشكال، على حد تعبيره.
وبين من يراه رومانسياً ثائراً أو إرهابياً مأجوراً، يصف نفسه بأنه "ثوري محترف".