أشرنا في تقديمنا للجزء الأول إلى أن هذه الرواية تبدو وكأنها تأريخ روائي لبيروت، في الجزء الثاني تتعزز هذه الفكرة، من خلال التفاصيل الإضافية التي تحفل بها الرواية، الكثير من هذه التفاصيل لم تكن ضرورية روائياً، رغم أن الرواية تدور حول عائلة البارودي السنية التي استوطن عميدها بيروت، إلا أنك تجد مثلاً تفصيلاً لحياة أحد عشر بيروتياً أُخذوا ليقاتلوا مع الدولة العثمانية للحرب في القرم، المفاجأة الروائية كانت في شخصية شاهين البارودي، الابن الأكبر للسيد عبدالجواد أحمد البارودي، جعلنا الكاتب نعتقد أن الرجل العملاق قد قتل في معركة بحرصاف التي دارت بين قوات السلطنة العثمانية المؤتمرة بالقيادة الإنجليزية وبين قوات إبراهيم باشا المصرية، لكننا نجد هنا أن الكاتب يعيد الحياة بشكل ما إلى شاهين البارودي، الرجل الذي قُتل هو شاهين البيروتي والرجل الذي نجا هو سليمان الانكشاري الذي عاش مقاتلاً مع الانكشارية ومات في حرب القرم ، عرف كارا سليمان في اللحظة الأخيرة وهو يضع رأسه في حضن عمر البارودي أن هذا الرجل هو أخوه وأنه شاهين البيروتي وليس كارا سليمان.
المؤلف لا يريدنا أن نسرف في التوهم فيذكر لنا أن الشجرة العائلية لآل البارودي تنهي حياة الصقر البارودي عند عام ١٨٤٠ م، ولكن الكاتب استجاب لنصيحة زميله الصحفي في الحياة وليد نويهض بالإبقاء على شاهين، فلماذا يلتزم روائياً إلى هذا الحد بالتاريخ، فكرة جيدة جعلت القارئ يتعرف على أحوال الريف اللبناني الإنسانية والتاريخية، كما أعطتنا إطلالة على الدور الإنجليزي المهيمن، العجوز الإنجليزي جوناثان ستيفنسون المعروف في أصقاع الإمبراطورية الإنجليزية -غرباً وشرقاً- بلقبه ظوق مارلبورو الثالث، هبط إلى أرض المعركة، عثر على العملاق الذي أبهره بشجاعته من قبل فأوكل به جراحه، أجرى الجراح الإنجليزي جراحة ناجحة لأحشاء البارودي ليعيش بعدها عقدين من الزمن، لم تعد الجراحة إليه الذاكرة، بالضبط مثلما أجرى الإنجليز جراحة ناجحة استأصلوا فيها النفوذ المصري في الشام وأعادوا الحياة لسلطنة بني عثمان، لم يكتفِ الإنجليز بهزيمة جيوش محمد علي في بحرصاف بل تابعوا القوات المنسحبة إلى مواقع صغيرة أخرى لكي يجهزوا تماماً على أي وجود لها في الشام.
بين هذه المعارك معركة حول عكا، دمرت فيها المدافع الإنجليزية حصون عكا، حصون عكا التي كسرت نابليون لم يكن الإنجليز بحاجة لتدميرها، ولكنهم أرادوا أن يذكروا بأن الإنجليز يحققون ما لم يستطع الفرنسيون تحقيقه، إنه انتصار معنوي مهم للإمبراطورية البازغة، أليس غريباً دور القوى المحلية كالعرب والعثمانيين في توطئة بلادهم للمستعمرين الجدد، الدور الذي أصبح معتاداً فيما بعد.
عميد أسرة البارودي توفي بعد أن دفن ابنه الأكبر وزوجته وجاريته وابنيها التوأمين، قال له عميد عائلة الفاخوري صهره إنك تصبح ابنا للبلد الذي تدفن فيه موتاك، وهكذا تحولت أسرة البارودي من أسرة دمشقية إلى أسرة بيروتية.
بيروت لم تتحول مدينة تركية برجوع الأتراك إليها، كانت إنجليزية، عن ظهر الدارعة ليفربول والدارعة بافوس نزل جنود في التنانير (الفرقة الأسكتلندية) يعزفون على أبواق عملاقة، هزت موسيقاهم البلد بدويّ أقوى من دويّ القذائف، مع الوقت تحولت بيروت إلى جنة للبحارة الإنجليز، نزلوا للسوق العمومية حيث الرقيق الأبيض من أيام إبراهيم باشا، حولوا بيروت إلى سدوم وعمورة. اشتكى الأهالي من وجود دور البغاء، أيام إبراهيم صدر أمر بإغلاق هذه البيوت، أغلقت مؤقتاً لتعود أكثر حضوراً، اشتكى الأهالي للوالي العثماني مراراً فوعد خيراً، لكن القناصل الإنجليز والفرنسيين منعوا ذلك، من الواضح أن بلادنا قد أصبحت تستعمر بالقوة الناعمة منذ ذلك التاريخ ١٨٤٠، ذلك قبل استعمارها المعلن بعد الحرب العالمية الأولى، كان حال الدولة العثمانية مثيراً للسخرية، حيث القنصل أقوى من الوالي، ورغم ذلك فإن شكاوى الأهالي أجبرت الإنجليز على إخلاء خان التوت الذي احتلوه وإعادة الماشية التي اغتصبوها، كما سُمح للأهالي بتصدير الحرير الطبيعي دونما الحاجة إلي وسطاء فرنسيين.
حرب الجبل بين الموارنة والدروز في عامي ١٨٤١، و ١٨٤٥ أدت إلى هجرة كثيرين من لبنانيي الجبل إلى بيروت وإلى العمران خارج السور. وفي عام ١٨٥٠ وقعت الفتنة المشؤومة في حلب فهاجر كثيرون من سكانها المسيحيين إلى بيروت، استقبلهم الآباء اليسوعيون الفرنسيون وآووهم واستأجروا لهم الخان العائد لعبدالرحيم البارودي الذي لم يكتمل بعد. كان الحلبيون يشعرون بالامتنان للحاج. فرغم أنه يأخذ أجراً للخان لكنه كان يرسل كل أسبوع ثلاثة حمير محملة بالطحين لهؤلاء اللاجئين.
الصراع في الجبل بين الدروز والموارنة وفي أماكن أخرى بين المسلمين والمسيحيين رسم الخريطة السكانية لبيروت، أقام المسيحيون شرق السور مبتعدين عن الغرب حيث عين المريسة قرية الدروز، أما الشرفة المطلة على عين المريسة فقد ابتاع أرضها الأمريكان عام ١٨٧٠ ليقيموا عليها الجامعة.
ازدهرت بيروت بذهب حلب ومنسوجاتها وتجارة الحرير، كانت قوافل آل الفاخوري تنقل البضائع إلى الداخل السوري ومنه، أما عبدالرحيم البارودي الذي تولى مكان أبيه إدارة أعماله والإنفاق على اليتامى من إخواته فقد نجح نجاحاً كبيراً، دكان الخضار تحول إلى تجارة التبغ وشارك الحلبيين في معامل النسيج، وازدهر مطعم المشويات، زوجتا أبيه شاركتا في العمل، أم زهرة النابلسية تصنع الكنافة والمهلبية، وسعدية الحص تصنع المعجنات، استطاب البيروتيون والإنجليز هذه الأطعمة. بنى البارودي الابن خان التوت، مكث في بنائه سبع سنوات، كلما علا السور سرق المهاجرون حجارته ليبنوا بها بيوتاً تسترهم، صبر عليهم طويلاً، عاد هؤلاء المهاجرون فأعادوا البناء، بنوا الخان بلا أجر إلا الزوادة اليومية اعترافاً بالجميل، تعهد البارودي الجامع العمري بالإصلاح والبناء، ورأى طفلين يتيمين فآواهما حتى كبرا، ثم جاءت الكنيسة الامريكية لأخذهما لأنهما من النصارى، لم يكن الحاج مفرطاً فيهما ولكن…، ظل الجميع يحفظ له الجميل، كان الحاج عبدالرحيم البارودي أول من قدم مشروعاً لإقامة طريق بيروت دمشق، ولكن المشروع أوكل لشركة فرنسية فيما بعد.
جاءت الابنة زهرة البارودي بعائلتها وأولادها هرباً من الكوليرا (الهواء الأصفر) الذي اجتاح صيدا ورمّلها، تجاوزت خطوط الحجر إلى حارة البارودي، هناك قلق مجلس شورى بيروت من إيواء عائلات هاجرت هرباً من الوباء، جاؤوا ليتحدثوا مع الحاج عبدالرحيم في شأن أخته وعائلتها، حجروا العائلة في أحد البيوت الخاصة بهم حتى انتهى الوباء. عام ١٨٥٥ جاء الطاعون الأسود، حصد الكثير من بيوت السهلات الفقيرة. وفي نفس الفترة تقريباً احترقت حارة اليهود التي تضم ثلاثين بيتاً، تفرق أهلها، ولكنهم عادوا لبنائها وفي تلك الفترة أيضاً بنى أبوجميل عطية في وادي أبوجميل الكنيس اليهودي، أبوجميل اليهودي هو أشهر من يبني العقد في بيروت وقد بنى القشلاق العثماني.
كان للإنجليز دور حاسم في ما صارت إليه بيروت، المنسوجات الإنجليزية زاحمت المنسوجات الحلبية واللباس الإفرنجي ضيق المجال على الثوب العربي والخياط الشدياق تحول إلى البروتستانتية ليسهل تجارته، لم يبق أمام الخياط حمادة المصري الذي يخيط الثوب العربي إلا قليلون منهم عبدالرحيم البارودي الذي كان يرعى خياطه فيكلفه بالخياطة له ولبعض رجال البلد من أصهاره، وأصبح كل من العاملين في القنصلية الإنجليزية وكلاء للبيوت التجارية الإنجليزية، أصبحت الكوفيات التي يلبسها البدو في بلاد الشام مصنوعة في بلاد الإنجليز من ماركة الملك تشارلز.
تلك الأيام كان التحول من مذهب إلى مذهب سهلاً وحسب الحاجة، فقد تحول تجار صيدا إلى الكاثوليكية حفاظاً على مصالحهم في البحر، كانت تجارتهم دائماً على خط صيدا دمياط، وكانوا بحاجة إلى من يحمي سفنهم فتحولوا إلى الكاثوليكية لكي يظفروا بحماية البابا، لم تعد سفن برباروسا العثمانية-التي كانت أيام القانوني- تحمي العثمانيين في البحر.
حرب القرم التي دامت سنتين بين السلطان والروس عام ١٨٥٣ قتل فيها ربع مليون روسي وربع مليون من قوات السلطان المدعومة بالقوات الإنجليزية والفرنسية، قبلها أرسل الروس فرقاً عسكرية لتدافع عن إسطنبول أمام زحف إبراهيم باشا، شجع الإنجليز والفرنسيون السلطان على الحرب لما يجنونه من فوائد من التمويل، ثلاثة آلاف من دروز الجبل أرسلهم القائمقام الدرزي أمين أرسلان، والي بيروت العثماني جمع فرقاً من بيروت وصيدا وحيفا وغزة وخان يونس ونابلس للمشاركة في الحرب، تسعون من بيروت ذهبوا منهم عمر البارودي العملاق الابن الأصغر لعبدالجواد البارودي، اكتشفت المجموعة أن واحداً منهم أخذ عنوة، كان من النصارى الذين يدفعون الجزية ولم يكن الجهاد مفروضاً عليهم، لم يعد منهم إلا أربعة بينهم صاحبنا البارودي، وكذلك أبيدت الفرقة الحيفاوية حول قلعة سيفاستوبول وفي بحرها الذي أصبحت مياهه دماً مات خلق كثير، امتلأ البحر بالأطراف الآدمية، انتصر السلطان ولكنه زاد ضعفاً أمام حلفائه الذين أثقلوه بالديون. بيروت تزداد سكاناً، نازحون من الجبل بعد ثورة سعيد جنبلاط ضد عسكرة أبناء الدروز لصالح السلطان، وبعد مذبحة دمشق نزل ببيروت ثلاثون ألفاً ضاعفوا عدد سكان المدينة وبمرور الأعوام تحولوا إلى بيروتيين لا فرق.
الحاج عبدالرحيم أدى الحج للمرة الثالثة وتوسعت أعماله، أصبح تاجر زجاج والخان أصبح خان القزاز، وله إضافة إلى تجارة التبغ والمطعم كرخانة الحرير، رجل يعمل الخير ويرعى المحتاجين، يتقدم به العمر، أما عمر البارودي أخوه فقد عاد من القرم ليموت بعدها بخمس سنوات بالهواء الأصفر (الكوليرا).
بيروت مدينة العالم رواية، ملحمة، تاريخ، تفاصيل مشوقة مرهقة أحياناً، مآسٍ مثيرة، يأتيها كل لاجئ وطامح وطامع، ويمر منها الغزاة، يغادرها اللبنانيون ليصبحوا مواطنين مؤثرين في دول أخرى والعالم يتجمع فيها وحولها، هكذا كانت وما تزال.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.