هل سمعت من قبل بإمبراطور الولايات المتحدة؟ رغم أن نظامها الدستوري يفرض انتخاب رئيس، فإنه في العام 1859، أعلن جوشوا أبراهام نورتون نفسه "نورتون الأول"، إمبراطور الولايات المتحدة".
ولم يكتفِ بالولايات المتحدة، بل أضاف إلى نفسه لاحقاً لقب "حامي المكسيك".
وبدلاً من إلقاء القبض عليه لادِّعاءاته المُتهوِّرة، احتفى به المواطنون في مدينته سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، وخُلِّدَت ذكراه في مؤلَّفات أدباءٍ بارزين.
فمن هو إمبراطور الولايات المتحدة؟
حياته المبكِّرة
كان والدا جوشوا نورتون (4 فبراير/شباط 1818-8 يناير/كانون الثاني 1880) يهوديَّين إنجليزيَّين، تركا إنجلترا في بادئ الأمر من أجل الانتقال إلى جنوب إفريقيا في 1820، كجزءٍ من الخطة الاستعمارية للحكومة.
كانا ضمن مجموعةٍ عُرِفَت فيما بعد باسم "مستوطني 1820″، ثم هاجَرَ نورتون إلى مكانٍ ما بالولايات المتحدة في وقتٍ ما قريبٍ من حمّى الذهب في كاليفورنيا عام 1849، بحسب ما نشره موقع Thought Co.
دَخَلَ إلى سوق العقارات في سان فرانسيسكو، وبحلول العام 1852 صار واحداً من أغنى المواطنين وأكثرهم احتراماً بالمدينة.
فشلٌ تجاري
في ديسمبر/كانون الأول 1852، استجابَت الصين لمجاعةٍ حلَّت بها بفرضِ حظرٍ على صادرات الأرز إلى بلدانٍ أخرى
تسبَّبَ الحظر في ارتفاعٍ كبير لأسعار الأرز في سان فرانسيسكو. وبعدما سمع نورتون بعودة سفينةٍ إلى كاليفورنيا من بيرو مُحمَّلة بـ200 ألف رطل من الأرز، حاوَلَ احتكار سوق الأرز.
وبعد أن اشترى الحمولة كلَّها بفترةٍ قصيرة، وَصَلَت سفنٌ أخرى من بيرو مُحمَّلة بالأرز، فانهارت الأسعار.
وبعد 4 أعوام تالية من التقاضي، حكمت المحكمة العليا في كاليفورنيا أخيراً ضد نورتون، ليعلن إثر ذلك إفلاسه في العام 1858.
إمبراطور الولايات المتحدة
اختفى جوشوا نورتون لعامٍ أو نحو ذلك بعد إعلان إفلاسه. وحين عاد إلى بؤرة الضوء، ظنَّ كثيرون أنه فَقَدَ عقله مع ثروته.
في 17 سبتمبر/أيلول 1859، وزَّع خطاباتٍ كتبها إلى الصحف عبر أرجاء سان فرانسيسكو مُعلِناً نفسه إمبراطور الولايات المتحدة نورتون الأول. تلقَّت صحيفة San Francisco Bulletin ادِّعاءاته ونشرت البيان التالي:
"بناءً على الرغبة والطلب القاطع لأغلبيةٍ كبيرةٍ من المواطنين في هذه الولايات المتحدة، أعلن أنا، جوشوا نورتون، سابقاً من خليج ألغوا، رأس الرجاء الصالح، وأقيم حالياً منذ 9 أعوام و10 أشهر في سان فرانسيسكو، كاليفورنيا، نفسي إمبراطوراً لهذه الولايات المتحدة، وبناءً على السلطة المُخوَّلة لي، فإنني أُوجِّه وآمر مُمَثِّلي الولايات المختلفة بالتجمُّع في القاعة الموسيقية للمدينة في الفاتح من فبراير/شباط المقبل، لإجراء بعض التغييرات بالقوانين القائمة في الاتحاد؛ للتخلُّص من الشرور التي يعمل في ظلِّها البلد، ولكسب الثقة داخلياً وخارجياً باستقرارنا ونزاهتنا".
تجاهلت الحكومة الفيدرالية والجنرالات الذين يقودون الجيش الأمريكي المراسيم العديدة التي أصدرها الإمبراطور نورتون بشأن حلِّ الكونغرس الأمريكي، والبلد نفسه، وحظر حزبين سياسيَّين أساسيَّين.
غير أنه كان مقبولاً لدى مواطني سان فرانسيسكو.
قضى معظم أيامه في السير بشوارع المدينة في زيٍّ أزرق بكتَّافاتٍ ذهبية مَنَحه إياها ضباطٌ بالجيش الأمريكي في حامية سان فرانسيسكو. ارتدى أيضاً قبعةً مُزيَّنةً بريشة طاووس.
كان يتفقَّد أحوال الطرق والأرصفة والملكيات العامة، وفي كثير من الأوقات كان يتحدَّث عن عددٍ كبيرٍ من الموضوعات الفلسفية.
صار كلباه، بومر ولازاروس، اللذان صاحباه في جولاته بالمدينة، من المشاهير أيضاً. وأضاف الإمبراطور نورتون إلى نفسه لقب "حامي المكسيك" بعد الغزو الفرنسي للمكسيك عام 1861.
وفي 1867، ألقى ضابط شرطةٍ القبض على جوشوا نورتون؛ لإلزامه بالعلاج من علةٍ عقلية.
عبَّرَ المواطنون والصحف عن غضبٍ عارمٍ من ذلك، ومن ثم أمَرَ رئيس شرطة سان فرانسيسكو، باتريك كراولي، بإطلاق سراح نورتون وأصدَرَ اعتذاراً رسمياً من قوة الشرطة. وأصدَرَ الإمبراطور عفواً عن ضابط الشرطة الذي ألقى القبض عليه.
ورغم أنه ظلَّ مُفقَراً، كان نورتون يأكل مجاناً في أفخم مطاعم المدينة. كانت تُقدَّم له المقاعد لحضور الحفلات والافتتاحات، وأصدر عملةً خاصةً به لتسديد ديونه، فيما قُبِلَت العملة في سان فرانسيسكو كعملةٍ محلية.
كانت صور الإمبراطور في زيِّه الملكي تُباع للسيَّاح، وصُنِعَت دُمى لتجسيده. في المقابل، جهَرَ الإمبراطور بحبِّه للمدينة بإعلانه أن استخدام كلمة "فريسكو" لنطق اسم المدينة يُعَدُّ جنحةً يُعاقَب عليها ناطقها بغرامةٍ قدرها 25 دولاراً.
تضمَّنت القرارات الرسمية للإمبراطور:
- 12 أكتوبر/تشرين الأول 1859: ألغى الكونغرس الأمريكي رسمياً.
- 2 ديسمبر/كانون الأول 1859: أعلن أن حاكم ولاية فيرجينيا، هنري وايز، لا بد أن يغادر منصبه؛ لإعدامه المؤيد لإلغاء العبودية جون براون، وأن يحل محله جون بريكنريدج من ولاية كنتاكي.
- 16 يوليو/تموز 1860: حلَّ الولايات المتحدة الأمريكية.
- 12 أغسطس/آب 1869: حلَّ وألغى الحزبين الديمقراطي والجمهوري، بسبب صراعهما الحزبي.
- 23 مارس/آذار 1872: أمر ببناء جسر بأسرع وقتٍ ممكن من أوكلاند إلى جزيرة الماعز بولاية كارولينا الجنوبية ممتداً إلى سان فرانسيسكو.
- 21 سبتمبر/أيلول 1872: أمر بإجراء استطلاعٍ من أجل تحديد ما إذا كان جسرٌ أو نفقٌ هو الأفضل لربط أوكلاند بسان فرانسيسكو.
بالطبع لم يستحوذ جوشوا نورتون على أيِّ سلطةٍ فعلية لإنفاذ هذه القرارات، لذا لم يُنفَّذ بالفعل أيٌّ منها.
الموت والجنازة
في 8 يناير/كانون الثاني 1880، انهار جوشوا نورتون في ركنٍ بشارع دوبونت بكاليفورنيا، والذي صار اسمه الآن شارع غرانت أفينيو.
كان في طريقه لحضور محاضرةٍ بأكاديمية كاليفورنيا للعلوم، فأرسلت الشرطة فوراً عربةً لنقله إلى مستشفى استقبال بالمدينة، إلا أن المنيَّة وافته قبل أن تصل العربة.
تبين لاحقاً أنه كان فقيراً ولديه ما يقرب من 5 دولارات حين انهار، علاوة على جنيهٍ ذهبي إنجليزي، تبلغ قيمته نحو 2.5 دولار، عُثِرَ عليه في غرفته.
ومن بين أغراضه، كانت هناك مجموعةٌ من عصي المشي وعديد من القبعات، إضافةً إلى خطاباتٍ مكتوبة للملكة فيكتوريا ملكة إنجلترا.
خطَّطَت الترتيبات الأولى لجنازته أن يُدفَن الإمبراطور نورتون الأول في أكفان الفقراء. غير أن إحدى جمعيات رجال الأعمال في سان فرانسيسكو، وهي نادي the Pacific Club، قرَّرَت أن تدفع من أجل نعشٍ من خشب الورد ليناسب رجلاً نبيلاً مثله.
وفي 10 يناير/كانون الثاني 1880، حَضَرَ موكب جنازته ما يقرب من 30 ألفاً من أصل 230 ألف مواطن في سان فرانسيسكو. وامتدَّ موكب الجنازة نفسه نحو 4 كيلومترات.
دُفِنَ نورتون في المقبرة الماسونية. وفي عام 1934، نُقِلَ النعش الخاص به، مع جميع النعوش الأخرى إلى مقبرة وودلون في كولما، بولاية كاليفورنيا. وحضر ما يقرب من 60 ألفاً موكب الجنازة الجديد.
رفرفت الأعلام عبر المدينة وكُتِبَ على شاهد قبره "نورتون الأول، إمبراطور الولايات المتحدة وحامي المكسيك".
التراث
رغم أن تصريحات الإمبراطور نورتون اعتُبِرَت هذياناً، فإن حديثه عن ضرورة إنشاء جسرٍ ونفقٍ لربط أوكلاند بسان فرانسيسكو تحقق، إذ اكتمل بناء جسر سان فرانسيسكو-أوكلاند في 12 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1936.
وفي العام 1969، اكتمل إنشاء النفق من أجل ربط المدينتين، وافتُتِحَ عام 1974.
الإمبراطور نورتون في الأدب
خُلِّدَ الإمبراطور نورتون في عددٍ كبيرٍ من المؤلَّفات الأدبية الشعبية. لقد ألهَمَ بشخصية "الملك" في رواية مارك تواين "The Adventures of Huckleberry Finn". وقد عاش تواين في سان فرانسيسكو خلال جزءٍ من فترة حياة الإمبراطور نورتون.
أما رواية روبرت لويس ستيفينسون، بعنوان "The Wrecker"، والمنشورة عام 1892، فقد تضمَّنَت شخصية الإمبراطور نورتون.
ويُعتَبَر نورتون مصدر إلهامٍ أساسي لرواية "The Emperor of Portugallia"، عام 1914، لمؤلِّفتها السويدية الحائزة جائزة نوبل سلمى لاغرلوف.
فهي تحكي قصة رجلٍ يقع في عالمٍ حالم، حيث تصبح ابنته إمبراطورة لأُمَّةٍ مُتخيَّلة، ويصبح هو إمبراطوراً.