لا يمتري أهل البصائر والنّهى في أن مَنشأ المعراج الحضاري والارتقاء الفكري لأي مجتمع نحو مدارج التمكين والازدهار، ينبثق من قَدحِ الفكر وشرارة الوعي، اللذين ينفخان روحَ الإرادة والفاعلية في النفوس الخاملة لتنطلق ببصيرتها نحو البناء والنماء.
ولطالما اعتُبرت السياسة في المخيال العربي رديفاً للكذب والنفاق والرداءة والخداع، غير أن هذا المفهوم يعتبر مغايراً تماماً للمفهوم المعياري لعلم السياسة عند أهل الدراية، الذي يشتمل في ماهيته المعرفية على دراسة أسس تسيير المجتمعات والمفاضلة بين البدائل ووضع البرامج التنموية ورسم السياسات والاستراتيجيات وإدارة الأزمات والعلاقات الدولية من منظور تفاعلي، فهو علمٌ يضطلع بتقديم المقاربات العلمية لبناء الدول الحديثة من حيث نظامها وأنساقها ومرتكزاتها والفواعل والمتغيرات المرتبطة بها. هو علم تتماهى فيه ملكات الإبداع والتفكير والتحليل والاستنباط والاستشراف والنظر الاستراتيجي والتأسيس والتجديد بروحِ الواقعية والموضوعية. هو علم يجمع في مادته التحليلية الأدوات والمقاربات العلمية للعلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية والقانونية.
إن السياسة هي ذلك العلم الذي يبحث في كل السبل الآمنة والممكنة لحل الأزمات بعيدا عن التصادم، إذ بغياب السياسة تحضر الحرب والعنف والدمار. ولا شك أن السياسة بهذا المفهوم لا يمكن أن يتسنّمَ ذرْوتَها سوى الراسخين في أصول المعرفة السياسية والتجريبية، ولعل التحوير الذي طال مفهومها من حيث المعنى والأداء هو الذي رسم ملمحاً سلبياً تجاه الوعي والثقافة السياسية بمجتمعاتنا العربية.
ولا يخفى على أيّ متابع للحياة السياسية العربية ما يعاينه من ضحالةٍ في المشهد السياسي على مستوى النظم وآليات الحكم ومناخ الحياة السياسية العامة، وما تعانيه من جمود وتكلس للعقل والإرادة وسط أَتُون الاستبداد والتسلط وغياب الفاعلية والحركية التنموية التي تتفاوت حدّتها نسبيا من قطر لآخر، وهذا يجعلنا نتساءل عن أيّ دور للمثقف وسط غمرة هذه التحديات في تشكيل الوعي المجتمعي والارتقاء بالفكر السياسي العربي؟ وما الذي يقف عائقاً في وجهه لقيادة قاطرة التغيير وإنتاج الأفكار المثيرة، وهندسة العقول المستنيرة؟
لقد شكل دور المثقف عبر الأحقاب الزمنية المتباينة نقطة مركزية في رسم المعالم الكبرى للتحولات الإصلاحية الرائدة، من خلال مبادراته الفاعلة في الهندسة الفكرية والجودة المعرفية، التي تسهم في تنشئة النفوس وإحياء الضمائر واستفاقة العقول، فالمثقف في أي مجتمع يفترض أن يكون مصدر إشعاع للوعي والقيم الحضارية، ومؤسساً لنُظُمِ التفكير الفعال في مجتمعه.
وفي سياق تحديد ماهية المثقف ودوره، يمكن أن نُزَايِلَ بين ستة أصناف من المثقفين وهي:
1- المثقف العضوي: هو المثقف الواعي بالمعضلات الحضارية والمجتمعية لأمته، المتحسس لآلامها وآمالها، فهو عضو أصيل منها وبها، يسعى إلى تكوين ثقافة ناصعة نابعة من أصول مجتمعه الذي هو عضو فيه، دون أن يمنعه ذلك من النقد والتمحيص لأجل البناء التأسيس، دون استيراد أو تكديس، هو المثقف الذي يدفع بأمته نحو القيام بأدوارها الحضارية، ويتمتع بالاستقلالية اللازمة التي تتيح له ممارسة فعل النقد، وبالتجانس الثقافي مع مجتمعه وطبقته الذي يُمكِّنُه من ممارسة فعل البناء، وقد اشتهر بهذا المصطلح المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي.
2- المثقف الوظيفي: هو المثقف التابع لسلطة حاكمة أو لجهة معينة بالداخل أو الخارج، ينتصر لمبادئها وثقافتها، ويروج لسياساتها، ويَبْرعُ في تبرير مذاهبها، وغالباً ما يحظى بامتيازاتها، وكثيراً ما يكون سعيُه مَحْضَ تزلُّفٍ!
3- المثقف الانتهازي: هو الذي يراقب المنتصر من بعيد، لا لينصره بل ليقف مع المتغلب، شعباً كان أو سلطة، فهو لا يخوض المعركة لكنه يهوى اقتسام الغنائم!
4- المثقف المُستَغرَبُ (المؤدلج): هو الذي يَحْلِبُ في إناء غيره،ويعيش صراعاً مع ذاته، مولع بالنقد التشكيكي لا البنائي، يستلهم أفكاره من روافد مغايرة سواء من الحضارة الغربية الحداثية، أو من المشارب المشرقية، فهي تمثل له النموذج الأمثل والمرجعية التأصيلية في الفكر والثقافة والأشكال والأمثال، يقف من تراث وثقافات الأمم الأخرى موقف المنبهر، ومن تراث وثقافة أمته موقف المستحقِر، لا يكترث بإصلاح الخلل بقدر ما يجتهد في تَعْيِيره وهمزه وإثبات عدميته!
5- المثقف الملتزم: هو المثقف الذي يعايش هموم مجتمعه وأمته، الملتزم بالدفاع عن قضاياها المصيرية والمنافح على حقوقها وحريتها، وقد يمتد دفاعه إلى القضايا الإنسانية العادلة كالحقوق والحريات وقضايا السود، والفئات المستضعفة وضحايا الحروب والفقر والاستبداد.
6- المثقف المصلح: هو الناقد البصير المتسم بالإيجابية في الطرح، والمعقولية في التفكير، والشمولية في التحليل، والواقعية في المعالجة، المنتج للأفكار والبدائل، الذي يروم الإصلاح والدفع بأمته نحو معارج التمكين، وهذا الصنف عزيز في الأمم، وحاله كحال الأنبياء في أقوامهم.
وإذا شئنا ضرب مثال عن هذا الصنف الفذ من المثقفين ذوي الهمم والنزعة الإصلاحية، نستحضر عبقرية المفكر الجزائري مالك بن نبي –رحمه الله- الذي أسهم بأفكاره الفعالة في هندسةِ منظورٍ حضاريٍّ بنائي، ومَأْسَسَةِ فكر سياسيٍّ متميز، انطلق من أوضاع وهموم المجتمعات العربية المنعتقة من نَيْر الاستدمار، فمالك بن نبي رحمه الله مثّل دور المثقف المصلح الملهم الذي استطاع اسْتِكْنَاه الجذور العميقة للأزمة الحضارية والسياسية للمجتمعات العربية والإسلامية، غير مكتفٍ بالوقوف على أطلال المشكلة الحضارية أو شُطآنها فحسب، أو ترداد السرديات البكائية عن تاريخ الأمة المجيد، بل أوغل في البحث عن المسببات الخفية للنكسة الحضارية، فأبدعت قريحته أفكاراً تحديثية، ونحتت مصطلحات تجديدية في هندسة الوعي السياسي والمجتمعي، من قبيل: القابلية للاستعمار، الفعالية الفكرية، العقل التطبيقي، الأفكار القاتلة والميتة، الأفكار الموضوعة والمصنوعة، الأفكار المخذولة، البناء والتكديس، الاغتراب الزماني والمكاني، النزعة الذرية، الإمكان الحضاري والإرادة الحضارية.. إلخ.
لم يكن مالك بن نبي -المهندس ذو التكوين الفرنسي- مولعاً بإثارة الاستغراب والجراءة على القيم ومكونات هوية الشعوب الإسلامية، أو شغوفاً بأساليب الطعن والتيئيس، أو التعصب والتقديس، رغم أنه عاش في بيئة توصف بالحداثة والعلمانية (فرنسا)، لكنه حرص أن ينتهج نهج الإصلاح والإرشاد، والمعالجة البصيرة والعميقة للأعطاب التي نكّلت بكيان ووعي الأمة وشوهت عقيدتها ورسالتها الحضارية، بروح علمية ناقدة، وتحليل منهجي رصين، وُضِع له القبول في الأرض ولدى الأجيال المتلاحقة، فاتسعت دائرة المتأثرين بفكره، لتُحدث رجّة وصحوة في شتى ربوع العالم العربي والإسلامي، قبل أن توأد بفعل معاول الاستبداد (محلياً)، ومشاريع الاستخراب الفكري (خارجياً)، التي تقوم على تتبع حركة الأفكار في المجتمعات ودراستها ثم تحريفها وتشويهها، وقد أطلق عليها مالك بن نبي "المرَاقِبُ الفكرية للاستعمار".
إن حركية المثقف في مجتمع المعرفة المعاصر، تتطلب منه أن يكون حاضر البديهة برأيه، مسهماً في تشكيل الرأي العام بفكره، مؤطراً للوعي برصانة وقوة طرحه، ولا يعقل أبداً أن يظل على هامش الحياة العامة أو يركن للفتور والخمول، أو ينهزم أمام جحافل الإحباط والرداءة، فيتخلف حين يُطلَب للمُبَادَأَة، ويتولى عندما يُفْقَتَرُ للمبادرة، ليتطفل -ساعتئذ- الأصاغرُ على محراب الأكابر، وتعطى القوس لغير باريها، ويسند الأمر لغير أهله، وما ثمة سوى التخلف والانحسار.
إن من أقدس مسؤوليات المثقفين المصلحين تجاه مجتمعاتهم؛ هي الاضطلاع بتأطير الوعي السياسي، وإرساء معالم الرشد الاجتماعي، ووأد الجهل المكَرَّسِ، واحْتِلَاس النقد المؤَسَّسِ، وبعث حركية التفكير المقدس، لبناء المعمار الفكري والحضاري للأمة، وتوجيه بوصلة التغيير نحو القمة، واستنهاض الهمم والإرادات والأوطار، بإصلاح القيم والأخلاق والأفكار، ودفعها نحو التغيير المأمول، والإصلاح الواعي والمسؤول.
أما إن فضّل المثقفون الركون للسلبية والعدمية؛ وآثروا التواري فوق البروج الوهمية، فسيكونون طرفاً في تعميم الضحالة الفكرية البائسة، والجهالة المتعالمة المتفلسفة، وسيغزو موقعها الشاغر، بفعل ثقافة الحياد السافر، زُمَرُ المتسلقين النفعيّين، وأشباه مُثَقَّفِين مَغْرُورِون، ورويبضات متصدرون، لا همّ لهم سوى نفخ الأوداج، والتحذلق في كل فِجَاجٍ، وتسويق الغَثِّ والقَشِّ والعَجَاجِ، ولا عزاء للوطن بعدئذ إذا اسْتَنْسَرَ به البُغَاثُ واسْتَنْوقَتِ الجمال واسْتُسْمِنَ كلُّ ذي وَرَمٍ.
إن أمام المثقفين المصلحين بالدول العربية دور كبير لإصلاح ما انخرم من الوعي السياسي والاجتماعي، بالعمل على ترقية مستوى التفكير وتزكية الأنفس ونصيحة المسؤول ونقد سياساته وتوجيه الإرادة والعمل نحو التنمية والإصلاح،لأجل بناء قاعدة صحيحة للتنمية الفكرية والبشرية، التي من خلالها تنبلج آفاق التغيير الإيجابي والارتقاء الحضاري للمجتمع العربي، نحو المستقبل الموعود، مستقبل العلم وحقوق الإنسان وشرعية الكفاءات وجودة الحياة وقوة وفعالية المؤسسات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.