بعدما كانت شوارع بيروت في عشرينيات القرن الماضي تعج بأطفال متجولين يبيعون العلكة الورود وأكياس المناديل الورقية، استيقظ أهالي المدينة في أحد أيام عام 1922 ليجدوا أن جميع هؤلاء الأطفال اختفوا فجأة. لم ينتبه سكان بيروت لاختفائهم، ولكن أهاليهم صعقوا لاختفاء هذا العدد الكبير في يوم واحد.
خاطف الأطفال تبين في اليوم التالي أنه الراحل رشيد بيضون الذي سيصبح نائباً ووزيراً للدفاع وأحد رجالات الاستقلال.
اختطف جميع هؤلاء الأطفال ليستحضر إليه أهاليهم ويؤنبهم وطلب منهم عدم إنزالهم في الشوارع واعداً بإعطائهم مصروفاً أسبوعياً مقابل أن يلتحقوا في المدرسة.
كانت بادرة بيضون انتفاضة غريبة من نوعها على النظام الإقطاعي آنذاك، الذي كان يقدّم حاجات ورغبات الإقطاعيين على سائر فئات الشعب من منطلق أن "البيك" يتعلم لأجل بقية شعبه.
واللافت هو أن بيضون لم يرزق بأطفال في حياته، ولعله ما يفسر غضبه من انتشار هؤلاء الأطفال في الشوارع نهاراً وحرمانهم من التعليم وأدنى حقوقهم.
وبحسب ما نشرت صحيفة "النهار" اللبنانية حين أتى أهل المخطوفين إليه كان ردّه قاسياً وهو الذي لم يُرزق بأطفال: "هؤلاء أطفالي وليسوا أطفالكم".
فسأل الأهالي عما يجنيه هؤلاء الصغار يومياً وحدد لهم يوم السبت ليعطي كل عائلة مجموع ما كان يؤمنه طفلهم شرط ألا يغيب الطالب عن مدرسته.
وبعد هذه الحادثة بعام واحد فقط، كان بيضون قد حقق حلمه بتأسيس الكلية العاملية عام 1923، ثم تلاها افتتاح 44 مدرسة في الجنوب والبقاع وجبل لبنان.
كان بيضون يطمح إلى نشر العلم والمعرفة في مواجهة الإقطاعية التي تشكل نسبة كبيرة من أركان السلطة اللبنانية آنذاك، والتي اعترضت على ممارساته.
من هو رشيد بيضون؟
وُلد رشيد بيضون عام 1889 (تتفاوت الرواية بين مكان ولادته في الشام أو بيروت)، وتعود أصول عائلته إلى الشام قبل أن تستقر في بيروت، لكن ظروفه لم تسمح له بتلقي التعليم العالي، فدرس في مدارس بيروت الابتدائية وفي المدرسة الأمريكية في صيدا.
أنشأ مع عدد من أبناء بيروت والجنوب الجمعية الخيرية الإسلامية العاملية (نسبة إلى جبل عامل أي الجنوب) للاهتمام بالفقراء، ثم أنشأ الكلية العاملية لتوفير فرص تعليم للفقراء والمحتاجين.
وما زالت هذه الكلية قائمة حتى اليوم، التي قال عنها: "إن الغاية التي من أجلها أنشئت الجمعية الخيرية الإسلامية العاملية هي نشر الثقافة في الربوع اللبنانية ومحاربة الجهل محاربة شديدة من أجل تكوين جيل جديد يتفهم معنى الحياة ومعنى الحرية. وما الكلية العاملية وفروعها سوى الأداة لتحقيق هذه الأهداف والمساهمة في بناء مجتمع صالح يعمل لخير الأمة العربية والوطن اللبناني".
بعد جهوده في المجال التعليمي، دخل رشيد بيضون معترك السياسة من باب مجلس النواب كنائب عن بيروت في عام 1937 وبعدها لعدة دورات نيابية انتخابية. كما شغل عدة مناصب وزارية منها وزير العدل ووزير البريد والبرق والهاتف ووزير الدفاع.
تزوج من السيدة السورية نظمية الشمة لكنه لم يرزق منها بأولاد، وتوفي عام 1971 بعد معاناة من أمراض الشيخوخة، فاعتزل سياسياً في أيامه الأخيرة.
كان من الأسماء التي وقّعت على العلم اللبناني عام 1943 وكان على رأس من ناضلوا لنيل الاستقلال من الانتداب الفرنسي مستخدماً شتى أنواع الوسائل، وأبرزها كان سلاح نشر العلم والمعرفة والوعي الاجتماعي.
لا يبعد ضريح رشيد بيضون عن ضريح رئيس الوزراء السابق صائب سلام في باحة جامع الخاشقجي في بيروت، كما انه على مقربة من تمثال الرئيس بشارة الخوري لكونه اختار أن يدفن في باحة الكلية التي أحب في محلة رأس النبع في العاصمة.
وتعد مسيرته داعمة للتعليم والتنوير حتى لقّبه البعض بـ"الرجل المستنير على قلة العلم".