بعدما مرت رياح الربيع العربي برداً وسلاماً على نظام الجزائر، وبعد أن ثبت الرئيس بوتفليقة أقدامه وظن أن لا مزحزح يزحزحه عن كرسي الرئاسة الذي استأثر به لعقود طويلة، ارتدت كرة الربيع العربي من عارضة القلوب التواقة للعدالة الاجتماعية في بلد الغاز والبترول والفقر والبطالة؛ لتدخل شباكه معلنة عن نهاية مسيرته قبل أن يرغب هو ومن والاه من العساكر. ليكتب الجزائريون بأنفسهم ملحمة تضاهي ملاحم الفاتحين المسلمين أو ملحمة كتلك التي سطرتها جموع المصريين سنة 2011.. ولكن!
يأبى النظام العسكري إلا أن يتمسك بالسلطة، وتأبى القوى الخارجية وعلى رأسها فرنسا إلا أن تعكر على الجزائري فرحته، فحين كان يرقص منتشياً بالنصر؛ حالماً بمستقبل آخر لبلاد المليون شهيد، صعد رئيس جديد-قديم، وحافظت القوى الرجعية على مكانتها وكأن شيئاً لم يحدث، فبهت الجزائري. وهو مازال مبهوتاً ليومنا هذا، فكل يوم تخرج عليه الحكومة الجديدة بقرار يضرب في عمق كيانه ويجرح كبرياءه، ولعل الحديث عن الإسلام والهوية الجزائرية من الأمور التي أرخت بظلالها على الشارع الجزائري، وأعادت إلى أذهانه ذكريات أليمة مع المستعمِر الفرنسي الغاشم.
فرنسا والحرب على الإسلام
قبل غزوها لبلاد الجزائر، كانت فرنسا تعي جيداً أن العدو الحقيقي الواقف في وجه أطماعها ليس الإنجليز ولا الألمان، فكلاهما يمكن التفاوض معهما، إنما العدو الحقيقي هو الدين الإسلامي. لقد درسوا تاريخ شمال إفريقيا، وأدركوا أن المنطقة ظلت رغم وجود القبائل الأمازيغية ضعيفة مشتتة تابعة للنفوذ الروماني وحين أراد يوغرطة أن يستقل قطعوا أذنيه وأعدموه. ولكن ذات المنطقة أصبحت قوية ومخيفة مع الدين الجديد، وبه خرجت إمبراطوريات من المنطقة حكمت أوروبا لقرون. الأمازيغي الذي كان يعمل بالسخرة لدى الرومان أضحى يتجول في البحار الأوروبية ويقبض الجزية من ملوكها، ويتلقى الهدايا والعطايا الجزيلة، ولمدة طويلة ظلت فرنسا تقترض من الجزائر.
أدركت فرنسا والغرب عموماً قوة الإسلام وقدرته على شحذ الهِمم فكان مشروعها الاستعماري إلى جانب كونه سرقة ثروات طبيعية، سرقة فكرية وغسيلاً للأدمغة. وهكذا قادت منذ أول أيامها حرب صليبية ضد الإسلام ورموزه. لقد كانت حرب فرنسا على الإسلام حرب المقدسة، وفي هذا يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه "من أجل التغيير":
".. وقد بدا له أن الاستعمار لديه هو أيضاً ذلك الحدس، الذي يتصل بواقع هذا الشعب، ولذا فسائر مخططاته الموجهة تصب دائماً ضد مفصل صمود الروح الجزائرية، الإسلام. فإذا ما سقط هذا المفصل فلن يكون هنالك ما يعوق عمل الاستعمار..".
فَهم العلماء والمجاهدون هذا؛ فعادوا للنبع الصافي وربوا عليه الطلبة وبه افتتح المجاهدون هجوماتهم؛ واليوم كأن العكس هو الذي يحدث، فرنسا أمست الصديق والمنقذ والإسلام العدو وسبب التخلف، هذا ما يقوله بعض الذين يَحسبون أنفسهم مثقفين.
جزائري الجنسية.. فرنسي الهوى
من ضمن استراتيجيات الحرب، توجد استراتيجية "ضرب المصدر"، فعوض أن تحارب الجيوش وتركض وراء الجنود، ركز على القوة الحقيقة للعدو، القوة التي تجعله متماسكاً، لا تسدد اللكمات للوجه بل للساقين، حين تضعف ساقا الملاكم تصبح لكماته أضعف ويصبح الانقضاض عليه أسهل. وهكذا فكر الغرب، فكانت حروبهم ضدنا، حرباً على مصدر قوتنا وتماسكنا، الدين الإسلامي، فقد عرفوا أن التشكيك فيه وتحطيمه، يعني تحطيم العالم الإسلامي وسقوطه النهائي.
يتخذ الغرب الإسلام عدواً؛ لكونه لم يستطع أن يحطمه كما فعل مع باقي الكيانات، إنه يرى -كما يقول المفكر مراد هوفمان- منافسة الإسلام له في العقيدة تجرؤاً. فكيف يواصل الإسلام انتشاره مع انحطاط الدول التي تمثله؟ وكيف لا يسعنا كغرب أن نوقف انتشاره مع تقدمنا المعرفي والأداتي؟ كيف مازال قومنا يدخلونه مع أننا شوهناه لسنين طويلة؟
إن هذا الأمر محير بالنسبة للغرب، وهو ما يفسر الشراسة التي يواجه بها كل أتباع الإسلام.
ولهذا أضحى كل المسلمين إرهابيين بالضرورة، وبات بعض المسلمين يتبرؤون من الإسلام حتى لا يقال عنهم متخلفون أو متشددون، ويتنكرون لإسلامهم كي يلقى عليهم رداء المثقف الذي يسقط عن كل مثقف يعتز بدينه. وهو الأمر الذي بات واضحاً.
في الجزائر، يبدو أن المثقفين ذهبوا مذهباً بعيداً في التبرؤ من الدين الإسلامي، فقد أبدوا هجومهم المباشر عليه وعلى كل من ينتسب له، فبات الفتح الإسلامي المبارك غزواً، وأضحى الإسلام الذي به قاد المجاهدون ثورتهم المباركة سبباً للتخلف؛ وعادت اللغة العربية لغة المستعمر. والفرنسية لغة تحضر. ونحن لا نستغرب من كلامهم هذا، فهم به يُكْملون الحرب المقدسة التي قادتها فرنسا ضد مصدر قوة الجزائر، وبالتالي هم استمرارية للمشروع الاستعماري في الجزائر، وهم وإن كانوا جزائريي الملامح فهم فرنسيو القلب والمشاعر والعقل. بل هم فرنسيون أكثر من الفرنسيين، وصدق شارل ديغول حين قال ذات مرة:
"لقد تركت في الجزائر جزائريين فرنسيين أكثر من الفرنسيين أنفسهم".
من المعروف لدى الباحثين أن فرنسا إبان استعمارها للجزائر؛ ربت طائفة من الجزائريين ليتحدثوا ويتحركوا باسمها، الذين قال فيهم جان بول سارتر في تقديمه لكتاب فرانز فانون "معذبو الأرض": "ثمة في العالم الثالث أناس يتحدثون دون استئذان منا!".
ومن نسل هؤلاء خرج لنا هؤلاء الذين نراهم اليوم.
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل ثلاث سنوات؛ أثارت "بسم الله الرحمن الرحيم" جدلاً واسعاً بالجزائر، فقد ظهرت الكتب المدرسية الجديدة خالية من البسملة، الأمر الذي اعتبره الجزائريون تعدياً على الهوية الإسلامية، وصرح أحد المسؤولين الجزائريين قائلاً: "البسملة جزء من هويتنا، ومن عقيدتنا، وإن حذفها يمثل اعتداء على عقول أطفالنا، ومساساً بشخصيتنا وهويتنا". وأضاف أن الدستور، وهو المرجعية العليا للبلاد، يبدأ بالبسملة.
القرار اتخذ أيام وزيرة التربية الوطنية السابقة، وهذه الأخيرة تكن العداء لكل ما هو إسلامي شأنها شأن العديد من المسؤولين في الجزائر.
واليوم يخرج علينا أستاذ جامعي جزائري؛ معبراً عن رفضه للبسملة كما صرح، وأردف أنه كأستاذ جامعي يرفض أن يبدأ طالب ما بحثه ببسم الله الرحمن الرحيم، ونحن نسأل هذا الأستاذ ماذا لو كان هذا الطالب الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط"، هل كان ليحرم فيلسوف الألمان من دكتوراه لأنه كتب بسم الله الرحمن الرحيم؟
تقدم كانط لنيل شهادة الدكتوراه بثلاث أطروحات خلال سنتين 1755 و1756، الأطروحة الأولى "في النار"؛ والأطروحة الثانية "المبادئ الأساسية للمعرفة الميتافيزيقية"؛ والأطروحة الثالثة بعنوان "في المونادولوجيا الفيزيائية".
على واجهة أطروحته الثانية، كتب كانط بخط يديه عبارة "بسم الله الرحمن الرحيم"؛ والإعجاب بالإسلام المعروف عنه. ويظهر لنا بالملموس أن عبارة بسم الله الرحمن الرحيم، لن تجعل من العمل الأكاديمي خرافياً؛ ولا تعني البتة كون كاتبها شخصاً رجعياً ظلامياً كما يخيل للأستاذ الجزائري الذي يفخر بكونه يرفضها بشكل قاطع.
ونحن نسائل هذا الأستاذ أيكما أعلم؛ أأنت أم الفيلسوف كانط؟
فلربما يتحفنا ويقول أنا أعلم منه.
نهاية لابد منها
نحن إذا ما قلنا إن الإسلام يتعرض للهجوم من الداخل ومن الخارج؛ يتنطط البعض ليصفونا بالجهلاء المؤمنين بنظرية "المؤامرة". وكأن نظرية الإيمان بالمؤامرة باتت مسبة وقدحاً، والحقيقة أنها غدت كذلك، فإياك أن تتحدث عما يحاك لبلدان العالم الثالث سواءً الإسلامية منها أو غير الإسلامية، فستبدو بمظهر الجاهل، في عالم لا يؤمن سوى بما هو مادي ملموس. أما المعنوي فلا يهتم به. وهؤلاء المتهكمون يعتقدون أن الحرب على الإسلام أو العالم الثالث تختصر في الاحتلال المادي المباشر، ولا يدركون أن المعارك الحربية ما هي إلا جزء بسيط من الحرب الجديدة، وأن الاهتمام بعتاد وعدة الخصم أصبح متجاوزاً لدى العسكريين؛ إنما الهدف الحقيقي اليوم هو ما أشرنا إليه سابقاً "مصدر القوة"، فهل تعتقد أن مصدر قوة المسلمين هو الجيش، أم الدين؟
أختم بنصيحة يقدمها السفير الألماني السابق مراد هوفمان للمسلمين ليعاودوا الإمساك بمقود الحضارة بثقة واعتزاز بهذا الدين، يقول:
"إذا ما أراد المسلمون حواراً حقيقياً مع الغرب، عليهم أن يثبتوا وجودهم وتأثيرهم، وأن يُحيوا فريضة الاجتهاد، وأن يكفوا عن الأسلوب الاعتذاري والتبريري عند مخاطبة الغرب. الإسلام هو الحل الوحيد للخروج من الهاوية التي تردّى الغرب فيها، وهو الخيار الوحيد للمجتمعات الغربية في القرن الحادي والعشرين".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.