قد يعتقد البعض أنّ هزيمة ألمانيا ودول المركز في الحرب العالمية الأولى كانت حتميةً بسبب قوة دول الحلفاء من الناحية البشرية والأسلحة والأموال فقط.
لكن قد يكون هذا ليس صحيحاً، إذ إن هناك أسبابا أخرى ساهمت في تسريع سقوط الألمان مثل "القرارات الخاطئة" التي لولاها لكان التاريخ مختلفاً الآن.
وللتذكير، فقد انقسمت القوى العالمية إبان الحرب العالمية الأولى (28 يوليو/تموز 1914 – 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1918) إلى معسكرين؛ دول المركز التي كان أبرزها ألمانيا والإمبراطورية العثمانية والنمسا والمجر وبلغاريا من جهة، ودول الحلفاء وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا وروسيا وإيطاليا من جهة أخرى.
هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى بسبب قرارات خاطئة
لا تنسوا أنّ إمبراطورية ألمانيا كادت تسيطر على العاصمة الفرنسية باريس عام 1914، وسحقت صربيا ورومانيا، واستنزفت الجيش الفرنسي حتى بدأ في التمرد ضد قيادته العسكرية، وأخرجت روسيا من الحرب بمساعدة حليفتها العثمانية، ثم اقتربت من تحقيق الانتصار على الجبهة الغربية في عام 1918، لذلك لا يجب حقاً الاستهانة بقوة الإمبراطورية الألمانية
وبحسب مجلة The National Interest الأمريكية، فإن القيصر الألماني فيلهلم الثاني وقادته اتخذوا عدة قرارات خاطئة تسببت في خسارتهم لحربٍ كان الانتصار فيها ممكناً.
القرار الخاطئ الأول: القتال على جبهتين في آن معاً
كانت هذه فكرة "خطة شليفن" الألمانية التي وضعها رئيس أركان الجيش الألماني الكونت ألفريد فون شليفن، والتي كانت تتمحور حول هزم فرنسا وروسيا في الوقت نفسه، اعتمدت الخطة على التركيز على فرنسا في الأيام الأولى للصراع مع الاحتفاظ بقوات أقل في الشرق.
الهدف الأساسي كما قلنا يتمثّل في هزيمة فرنسا بسرعة بينما لا تزال روسيا الشاسعة غير المتطورة تحشد قواتها، ثم نقل القوات الألمانية بالسكك الحديدية لتصفية الحسابات مع القيصر الروسي بمساندة من الحليف العثماني.
ومع ذلك، شنّت روسيا هجوماً على بروسيا الشرقية في أغسطس/آب 1914 بهدف محاصرتها في معركة "تاننبرغ".
إلا أنهم تكبدوا خسائر في الأرواح وصلت إلى 170 ألف جندي، مقابل 12 ألف جندي ألماني فقط في واحدة من أشهر معارك التطويق في التاريخ.
ومع ذلك، أثار التقدّم الروسي قلق رئيس أركان الجيش الألماني، هيلموت فون مولتكه، ودفعه إلى نقل ثلاث وحدات عسكرية من فرنسا إلى شرق بروسيا.
لكن تلك الوحدات وصلت متأخرة جداً، ما أدَّى إلى حرمان الهجوم الغربي من قوات حاسمة في أفضل وقت كانت تستطيع فيه ألمانيا هزيمة فرنسا وربما إنهاء الحرب.
منذ ذلك الحين، كان يتعيّن على ألمانيا نشر قواتها بين الغرب والشرق، مع دعم حلفائها العثمانيين والنمساويين والمجريين.
فبات واضحاً في عام 1918 ما كان يمكن أن تحققه ألمانيا لو كانت ركّزت على جبهة قتال واحدة فقط.
وبعد إجبار الحكومة السوفييتية الجديدة على طلب السلام، نقل الألمان سريعاً 500 ألف جندي إلى فرنسا.
فأطلق الألمان العنان أيضاً لجنود "قوات الصدمة" المُدرّبين على القتال بتكتيكات التسلل الألمانية الجديدة المبتكرة – أحد الأشكال المبكرة لإستراتيجية الحرب الخاطفة ون الدبابات – التي مكنّتهم من كسر جمود حرب الخنادق.
أدت سلسلة الهجمات الألمانية المعروفة باسم "هجوم الربيع" أو "معركة القيصر" في عام 1918 إلى تحطيم العديد من دفاعات القوات البريطانية وأجبرت القائد البريطاني، دوغلاس هيغ، على تحذير قواته من أنَّهم أصبحوا محاصرين في وضع صعب للغاية بدون دعم.
وبعد 4 سنوات من القتال الشرس والحصار الاقتصادي، كانت ألمانيا لا تزال تمتلك القوة لتحقّق في غضون أسابيع ما يفوق ما حققته قوات الحلفاء على مدار 4 سنوات من الهجمات الدموية في معركة "السوم" ومعركة باشنديل ومعركة "أيسن".
إذا فكرنا من الناحية المثالية التي كان على ألمانيا القيام بها هي إيجاد وسائل دبلوماسية لقتال روسيا وحدها دون الدخول في قتال مع فرنسا، أو العكس.
لكن في ضوء عدم فعل ذلك، وبالنظر إلى المسافات الأقصر في الغرب، كان من الأفضل لألمانيا التنازل مؤقتاً عن بعض أراضي شرق بروسيا أثناء التركيز على معركة الاستيلاء على باريس. ربما لم يكن الأمر سهلاً، لكنه أسهل بكثير من القتال على جبهتين.
القرار الخاطئ الثاني: عدم غزو بلجيكا
كانت الإمبراطورية الألمانية ذكية للغاية بشأن ما يفيد بمصالحها الخاصة، لذلك من إذا نظرنا من المنظور السياسي فإن قرار عدم غزو بلجيكا المحايدة كان صحيحاً.
لكن إذا نظرنا من منظور عسكري، فقد كان التقدّم إلى بلجيكا خطوة رائعة لتجاوز القوات الفرنسية شمالاً والتحصينات على الحدود الفرنسية الألمانية، ثم الاتجاه جنوباً لإسقاط باريس وتطويق الجيش الفرنسي على الحدود الفرنسية الألمانية من الخلف.
لكن هل كان غزو بلجيكا ضربة استراتيجية قاضية؟ في الواقع نعم، فقد تسبّب أيضاً في خسارة ألمانيا للحرب.
عندما ضمنت بريطانيا حياد بلجيكا، استهان القادة الألمان بهذا القرار، لكن تلك الاستهانة كلفت برلين ثمناً باهظاً من خلال إعطاء لندن، التي كانت ملتزمة باتفاق ينص على حماية بلجيكا في حالة الحرب، سبباً لإعلان الحرب على ألمانيا.
فأصبحت ألمانيا لا تواجه فرنسا وروسيا فحسب، بل تواجه أيضاً الموارد العسكرية والاقتصادية الهائلة للإمبراطورية البريطانية.
أضاف دخول بريطانيا وإمبراطوريتها ما يقرب من 9 ملايين جندي إلى دول الحلفاء، فضلاً عن انضمام أسطول البحرية الملكية البريطانية.
كما كان أسطول المعارك الفرنسي نصف حجم نظيره الألماني ونُشر في البحر الأبيض المتوسط ضد شركاء الألمان النمساويين – المجريين والعثمانيين.
وكان حجم البحرية الروسية ضئيلاً للغاية، لذا، كانت قدرات الأسطول البريطاني الضخم هي التي سمحت بتنفيذ الحصار الذي حجب عن ألمانيا جميع الإمدادات خاصةً الطعام، مما أسفر عن تجويع 400 ألف ألماني حتى الموت وأضعف الروح المعنوية المدنية والعسكرية بحلول أواخر عام 1918.
لكن لو كانت ألمانيا استطاعت تجنّب دخول البريطانيين لشهور أو سنوات، كانت ستتمتع بمزيد من الوقت والموارد لهزيمة أعدائها.
القرار الخاطئ الثالث: بناء أسطول ضخم فوق سطح الماء
كان أسطول "أعالي البحار" التابع للألمان ثاني أقوى قوة بحرية في العالم عام 1914، بعد الأسطول البريطاني الكبير.
إذ كان يتألّف من 15 بارجة دريدنوت مقارنةً بـ 22 في الأسطول البريطاني، و5 طرادات معارك مقارنةً بـ 9 في الأسطول البريطاني.
بينما كانت سفن سطح الماء الألمانية تتمتّع بدروع، ومدافع، وأنظمة دفع وسيطرة على الحريق أفضل من نظيراتها البريطانية.
لكن ما الذي حقّقه أسطول سطح الماء القوي هذا؟ بكل بساطة لا شيء!
إذ نادراً ما كانت السفن الكُبرى تغادر الميناء، مما ساعد البريطانيين في تمديد حصارهم، فماذا كانت فائدة الأسطول في طالما عجز عن كسر الحصار البريطاني، وفرض حصاره الخاص على بريطانيا، أو تسهيل الغزو البرمائي الألماني لإنجلترا؟
كل ما فعله هذا الأسطول هو استفزاز البريطانيين الذين اعتبروا بسببه ألمانيا تهديداً قبل حتى أن تندلع الحرب.
القرار الخاطئ الرابع: اللجوء إلى حرب الغواصات دون حدود
في عام 1914، كان يُفترض بالغواصات أن تطفو فوق سطح الماء أثناء الهجوم على السفن التجارية، من أجل السماح لطاقم وركاب هذه السفن بالهروب.
بكل تأكيد ستبدو لك هذه الفكرة نبيلة وإنسانية، ولكنها كانت تترك الغواصات أكثر عرضة للخطر.
كان الألمان يفعلون ذلك حتى عام 1915 عندما رأوا أنّ الإنسانية ستكلفهم كثيراً فتحولوا إلى حرب الغواصات دون حدود حيث يجري إغراق السفن دون سابق إنذار.
فأغرق الألمان الكثير من السفن، ثم توقّفوا عن ذلك تحت الضغوط الأمريكية، قبل أن يستأنفوا إغراق السفن عام 1917 في خطوةٍ يائسة بغرض إنهاء الصراع الذي كان يستنزف ألمانيا حتى الموت.
هل كان الأمر يستحق ذلك؟ إذ أغرق هجوم غواصات يو بوت الشامل نحو 880 ألف طن من حمولات السفن التجارية في شهر أبريل/نيسان عام 1917 فقط، وعرّض التجارة المحمولة بحراً – التي تعتمد عليها بريطانيا – للخطر.
ساعد ذلك الأمر الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون على إقناع الكونغرس بشنّ الحرب على ألمانيا في أبريل/نيسان عام 1917.
وأدّى دخول أكثر من مليون جندي أمريكي جديد في المعركة أواخر عام 1918 إلى تقوية الجيوش البريطانية والفرنسية، التي أنهكتها سنوات الحرب والهجمات الألمانية المُدمّرة في عام 1918.
وكان ويلسون مقتنعاً بأنّ أمريكا يجب أن تدخل الحرب ضد ألمانيا، بينما كان تخلّي ألمانيا عن حرب الغواصات بدون قيود سيسمح لبريطانيا بتضميد الجراح التي أصابت جسدها نتيجتها. وكان من شأنه أيضاً أن يُؤجّل تدفّق الجنود الأمريكيين الذي قلب موازين القوى على الجبهة الغربية عام 1918.
أخيراً لم تكُن تلك الحلول البديلة ستضمن النصر لألمانيا، ولكنّها كانت ستمنحها بكل تأكيد الفرصة.