شخصيات تجسّد ببراعة حالنا مع الغربة والمعاناة والوحدة.. لماذا يجب أن تقرأ رواية «بريد الليل»؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/06/17 الساعة 10:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/17 الساعة 11:01 بتوقيت غرينتش
شخصيات تجسّد ببراعة حالنا مع الغربة والمعاناة والوحدة.. لماذا يجب أن تقرأ رواية «بريد الليل»؟

البنية التراسلية في الشكل الروائي توفّر مجالاً لصياغة عملٍ يتّصفُ بتعددية الأصوات، ويتحققُ ذلك إذا لم تكن المادة المروية مُحمّلةً بوظائف أيديولوجية، وإذا غابت فيها النبرة الوعظية. وبهذا يتوارى المؤلّفُ من المشهد وتوهمُ الأجواء بأن دوره هو تنظيم محتويات النص، الأمر الذي يؤسس لأصوات مُستقلّة لدرجة يبدو أن الشخصيات الروائية مُنفصلة عن صانعها. 

نجد ذلك في رواية "بريد الليل" للكاتبة اللبنانية هدى بركات، إذ نجحت مؤلّفة "حارث المياه" في الوقوف على مسافة محايدة من شخصياتها الروائية، من دون التدخّل أو التعليق من خلال التستّر وراء الراوي.

وعليه، فإن كل شخصية تسترسلُ في سرد ذكرياتها المستعادة بصيغة الرسالة. ومع أن شخصيات الرواية تتقاطع مصائرها وتشتركُ في معاناة الغربة والحنين إلى زمن ضائع على رغم قساوته، غير أنّ التفاصيل الدقيقة تميّزُ بين التجارب والظروف الحياتية. إذاً، فالذاكرة موشومة بمرارة بيئات المنشأ وسنوات المنفى، لذا تفقدُ الشخصيات صفاتها المكانية كأنها كائنات مرمية في اللامكان.

النزعة العبثية

واللافت في هذا الإطار هو تسرّب النزعة العبثية في فكرة الرواية، كما أن محاولة الشخصيات التغلغل في الأشياء المكوّنة لبنية الأمكنة تذكّرك بتأملات "روكنتان" بطل رواية الغثيان في مظاهر ما هو مفارق له. فالمرأة التي تراسل حبيبها السابق، وهو مقيم في كندا مُنتظرةً وصوله، تعاينُ مكوّنات غرفة الفندق: "من يقعدُ في الفراغ يبحثُ لا إرادياً عن صلة له بالمعنى الذي للأغراض". وفيما تريدُ أن تتآنس مع المكان، يقعُ نظرها على رسالة في دليل الفندق، فما تقرأه مختلف عن قصتها لكن الوحشة هي ما تربطها بصاحب الرسالة. وقبل أن تسترجع ذكريات الأيام الماضية وتكتبُ عن تخيلها لشكل اللقاء، تحكي عن سيناريوهاتها المفترضة حول مصير صاحب الرسالة واحتمال تورّط المرأة التي كان يحبّها في مقتله، ويحوم خيالها أيضاً حول رجل المخابرات الذي سبقها في الإقامة بالغرفة مراقباً الشاب. هكذا، تتم متابعة جزء من الرسالة الأولى من موقع المرأة التي من جانبها تدوّن رسالتها، وهذا النسق يكونُ متّبعاً في العلاقة القائمة بين الشاب الذي راسَل أمه والمرأة التي تخاطبُ شقيقها في رسالتها.

شخصيات عالقة

إضافة إلى التغرّب والمعاناة والوحدة، تشتركُ شخصيات هدى بركات في التعرّي من اسم العلم بمعنى تعومُ في فضاء النصّ بلا علامات. فبرأي "رولان بارت"، اسم العلم يقدّمُ نفسه للاستكشاف وفكّ الشيفرة. وبالتالي، لا معلومات عن الشخصيات عدا ما يتوافر في طيّات الرسائل الخمس التي تتوالى، وتحتفظ كل رسالة بخصوصيتها في الموضوع، بحيثُ يُخيّل إلى القارئ بأنَّ ما يستعادُ في سياقها عبارة عن فيلم سينمائي. يُذكر أنّ الكاتب الإنجليزي إيان ماكيوان يرى تماثلاً بين الرواية القصيرة والسيناريو، ويحدد المشتركات بين الاثنين في مقال ترجمته لطفية الدليمي. فالاقتصاد اللغوي ونحت الشخصيات الفاعلة في الحلقات السردية، ولو في حدود ضيّقة، هو من مُتطلّبات الرواية القصيرة بنظر ماكيوان، وهذا ما تمتازُ به "بريد الليل" في تشكيل مقوّماتها الداعمة لخطاب النص. وتستشفُّ في البنية المكانية صورة للمستوى النفسي لدى الشخصيات العالقة في الفنادق والمطار والشوارع.

أضف إلى ذلك، فإنّ ما تَتوخّاه هذه الشخصيات من سرد الذكريات ليس استعادة فردوس الطفولة، لأنَّ ماضي هؤلاء ليس أقل تأزّماً من الحاضر. فالشخصية الأولى تريد كتابة رسالة وهمية لأمها، ومن ثمَّ يصل خبر كارثة حَلّت بالقرية جرّاء انهيار السدّ. إذاً، لا يعرف كاتب الرسالة الأولى مصير أهله، غير أن اللحظة التي وضعته فيها الأم داخل القطار المنطلق نحو العاصمة ماثلةٌ في ذهنه، ويبوحُ لحبيبته الغائبة بأنّ مغيب ذاك اليوم بقي في رأسه، ويمضي في الكشف عن ميوله المتقلّبة نتيجة الإقصاء من وسطه ونشأته بعيداً من ظلّ الأب. وما يتحسّر عليه هو رحيل الأم قبل كشف الحساب والانتقام منها، وتتضارب المشاعر لدى صاحب الرسالة الأولى إذ يتأرجح بين الحب والغيرة من جهة وبين الانتقام والهروب من جهة أخرى، فهو يصنَّف ضمن المعارضين من دون أن يكون منهم، ويملُّ من دفء حبيبته وما أن تفارقه حتى يشتاق إليها. لا يسعده إن تَصوَّرها حزينة عليه، ويؤلمهُ إذا ساوره الشعور بأن لا مكان له في حياتها. فالعلاقة المتوتّرة مع الأم تمتدّ إلى صاحب الرسالة الثالثة، حيثُ يحمّلها مسؤولية استفحال قسوة الأب وتَعاظم عذاباته.

ومع ذلك يعترفُ الابن، الذي انقلبَ من الضحية إلى الجلّاد وتحوّل من الموالاة إلى المعارضة بفِعل الصدفة، بأنَّ أجمل ذكرياته هي بَصقتها على وجهه. لافتاً إلى أن مشهد بكاء امرأة في المطار أوحى بكتابة رسالته، فهو ينبشُ في كيس القمامة بحثاً عن أجزاء الورقة التي مزّقتها المرأة. والمستغربُ أنّ الأخيرة تعود لاستعادة ما رَمَت للتوّ في القمامة من دون أن تجد له أثراً. وينمُّ ما تخبرهُ صاحبة الرسالة الرابعة عن وجود التشنّج بينها وبين أمّها، لدرجة تتّهم بقتل الأخيرة ويريد الأخ السجين الانتقام من أختها بناءً على فرضية الجريمة.

تناغم موسيقي

يستمدُّ العمل الروائي أبعاده الجمالية من التناغم بين وحداته، وفي ذلك يتقاطع مع فن الموسيقى. ومن هنا، نفهمُ مغزى ما قاله الفنان الفلسطيني وسام جبران إنّ "الرواية عمل سيمفوني بامتياز"، فإنّ تنظيم "بريد الليل" على المستوى البنائي قريب من العمل الموسيقي لجهة تكرار الإيماءة إلى الحافز لكتابة الرسالة. إذ ما يكتبهُ صاحب الرسالة الأولى يكونُ نواةً لِما يليها من الرسائل، ولولا العثور على الرسالة القابعة في الفندق أو في البار أو في بَهو المطار لَما شرعت الشخصيات بالبوح عن هواجسها والاسترداد إلى الأزمنة الغابرة. إذا كانت آلة السرد تتحرّك في روايات باتريك موديانو وتسدُّ الثغرات في حلقاتها من خلال الصوَر الفوتوغرافية أو دليل الهاتف أو قصاصات الصحف والمجلات، فإنَّ فحوى الرسالة يكون عاملاً لانتظام خط السرد في رواية هدى بركات.

يُشار إلى أن عزلة شخصيات "بريد الليل" وتوغّلها في دهاليز الذاكرة والتقابل بين ملامح الأمكنة في أزمنة مختلفة، آليات متقاربة لِما تمرُّ عليك لدى مؤلف "أزاهير الخراب"، فإنَّ أمل المرأة التي تعشق صوت عبد الحليم وأفلام الزمن الجميل برؤية صاحب الرسالة الأولى يذكّرك بكلام موديانو: "سنجدُ أولئك الذين نبحثُ عنهم إذا كانوا أحياءً في مكان ما".

ما يجبُ الإشارة إليه أنَّ هذا النص الروائي ينفتحُ قوسه على عدة ثيمات، منها الغربة والعنف السياسي والأسَري والمجتمعي والحب والحنين. كلّ ذلك مَبثوث في تضاعيف العمل، مع التلميح إلى الازدواجية سواء على المستوى السياسي أو الديني. ومن الملاحظ أنَّ هدى بركات لا تغادر موقعها المحايد في القسم الأخير من الرواية، إذ يكملُ البوسطجي المتكلّم بضمير الأول السلسلة المتتالية. فهو يرتّب الرسائل المتراكمة مع إضافة توضحيات لكلّ مغلّف قبل أن يداهمه الموت.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
كه يلان محمد
كاتب عراقي مهتم بالثقافة والأدب والفلسفة
كاتب عراقي مهتم بالثقافة والأدب والفلسفة
تحميل المزيد