قبل أن تشكل الولايات المتحدة المشروع السري الذي عرف لاحقاً باسم "مشروع مانهاتن" وتتوصل من خلاله لاكتشاف القنبلة النووية وتجربها في هيروشيما وناكازاكي في اليابان، كان الحلفاء متخوفين للغاية من أن تتمكن ألمانيا من تصنيع القنبلة النووية أولاً، لأن ذلك من شأنه أن يقلب موازين القوى، ويضمن أن تكسب قوى المحور الحرب ضد الحلفاء.
لم تكن القنبلة النووية السلاح الوحيد الذي من الممكن للقوات النازية تطويره، فبحسب استخبارات قوى الحلفاء كان النازيون يعملون على مجموعة من الأسلحة التي أطلق عليها اسم "الأسلحة العجيبة" Wunderwaffen.
بعض هذه الأسلحة المزعومة كانت تبدو وكأنها من عالم آخر، مثل مولدات الزلازل أو أشعة الموت.
لكن بعضها الآخر، مثل الأسلحة البكتيرية والصواريخ والغازات الفتاكة المستحدثة، كان من الممكن صنعه فعلاً.
وأكثر ما أرق الحلفاء هو احتمالية أن ينجح الألمان في تصنيع قنبلة ذرية وتفجيرها، فما الذي فعلوه لمنع ذلك؟
إليكم قصة واحدة من أخطر العمليات الاستخباراتية في الحرب العالمية الثانية، حسبما وردت في موقع History البريطاني:
ما قبل "مشروع منهاتن": وحدة العمليات الخاصة لاختطاف العلماء الألمان
في بداية الحرب العالمية الثانية، كانت ألمانيا قد فاقت الدول الأخرى في الأبحاث الذرية بكثير.
ففي عام 1938، اكتشف علماء ألمان الانشطار النووي. بل ونظم الألمان وحدات علمية خاصة يرأسها عالم الفيزياء الكمية فيرنر كارل هايزنبرغ بهدف تطوير سلاح ذري، وجمعوا الكثير من اليورانيوم لتحقيق هدفهم.
وعلى الجانب الآخر، نظم الأمريكيون وحدة عمليات خاصة تحت ستار السرية في 1943، وكلفوها باكتشاف الأسرار النووية النازية واختطاف أبرز العلماء.
كان الاسم الحركي للوحدة هو "ألسوس"، والاسم المستعار "برق أ" Lightning A، وتكونت من عددٍ صغير من العلماء وقوات الاستخبارات المضادة، يرأسهم الكولونيل بوريس تي. باش، ضابط الاستخبارات المضادة الذي أدار أمن مشروع مانهاتن الأمريكي لإنتاج قنبلة نووية.
وكشف باش عن دائرة من الجواسيس الشيوعيين الذين يحاولون سرقة الأسرار النووية الأمريكية.
وقد تبع الكولونيل باش وفريقه في البداية الحلفاء إلى الجبهات الأمامية في إيطاليا وفرنسا، واستجوبوا العلماء واستولوا على الأبحاث.
وقادت هذه الجهود الاستخبارات الأمريكية إلى استنتاج أن الصين على الأرجح لا تمتلك الإمكانات اللازمة لتطوير قنبلة نووية.
لكن هذا الاستنتاج كان ينقصه الدليل، وكانت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة قد بدأت في التشكل بالفعل.
وقد أصاب الأمريكيين قلق بالغ من أن تقع الأبحاث النووية الأمريكية في أيدٍ شيوعية.
للحيلولة دون هذا، قاد باش الفريق A في أخطر وأجرأ مهمة في تاريخه: عبور خطوط العدو إلى الداخل الألماني.
"العملية الكبرى": إخراج المعمل النووي النازي من جحره
حين دخلت قوة باش الصغيرة أرض العدو في 22 أبريل/نيسان لعام 1945، في مهمة أطلق عليها اسم "العملية الكبرى"، كانت تحميهم عربتان مدرعتان وأربع سيارات جيب ثُبت عليها مدافع رشاشة، إلى جانب صندوق من الأسلحة الألمانية التي اغتنموها.
ومع أن النظام النازي كان على وشك الانهيار، فقد خشي الأمريكيون تهديد الوحدات العسكرية النازية المقاومة وعصابات الذئاب البشرية Wehrwulf، بشبابها صعب المراس المخلص للنازية حتى الموت.
ومشطت الوحدة "برق أ" الريف حول مدينة هايدلبرغ، واتجهت جنوباً إلى بلدة هايغرلوخ، مستبقة جيوش الحلفاء المتقدمة نحو ألمانيا.
ولحسن حظ باش، استسلم الألمان في البلد أمام عصبته الصغيرة، وعلقوا الملاءات البيضاء من الشرفات والأعمدة، مؤمنين بأن الحرب ستنتهي قريباً.
وفي كهف ليس ببعيد عن هايدرلوخ، وجد الكولونيل باش الجائزة إنها مختبر نووي نازي بمفاعل اختبار. وبدأ الأمريكيون تفكيكه في اليوم التالي ثم دمروا موقعه.
وعندها قسم باش فريقه بهدف اصطياد العلماء الألمان المختبئين.
اتجهت وحدة من "برق أ" إلى تايلفينغن، وهربت بالكاد من هجومٍ من جانب وحدة الذئاب البشرية النازيين، لكنهم استطاعوا في النهاية إخضاع البلدة.
نزح المجارير بحثاً عن الأسرار النووية
وفي 24 أبريل/نيسان، اكتشف فريق باش اكتشافاً ضخماً آخر: مشغل نسيجٍ حوله الألمان والمباني المحيطة به إلى معمل لإجراء الأبحاث النووية الألمانية.
وهناك قبض الفريق على 25 عالماً، واستجوبوهم وعرفوا منهم أن الملفات البحثية الألمانية لم يتم تدميرها كما كان علماء قد زعموا، بل وُضِعت داخل أسطوانة مضادة للماء، وألقيت في مجرور لتصريف الفضلات.
وأوكل باش هذه المهمة المقززة لمرؤوسيه، الذين سبحوا في الفضلات البشرية، وتمكنوا من استعادة الأسطوانة. كما عثر باش على كومة اليورانيوم النازي والماء الثقيل (نوع من الماء الحاوي على كمية أكبر من الهيدروجين) مدفونة في حقلٍ قريب.
بل وعثرت الوحدة على مكتب العالم الألماني هايزنبرغ، لكن العالم كان قد هرب منذ زمن.
فقد استقل قبلها بأسبوع قطاراً ودراجة ليلحق بأسرته في جبال بافاريا، على بعد مئتي ميل.
تعقب عالم الفيزياء الأول
انتهت العملية الكبرى بنجاح، لكن باش أراد رأس هايزنبرغ.
تتبع باش الأدلة وكانت الهواجس تملأه، إذ ظلت الإشاعات تتوالى عن اعتزام الفوهرر إطلاق سلاحٍ عجيب أخير على قوات الحلفاء، وتوجه بقواته إلى جبال الألب البافارية.
وبعد أن خربت مجموعة من الذئاب جسراً حيوياً يعبر فوق أخدود، اضطر جنود "برق أ" إلى ترك مركباتهم، وقاد باش رجاله عبر الوادي الضيق صعوداً إلى الجبال.
وحين وصلوا إلى بلدة أورفِلد، بالقرب من بحيرة والشن على ارتفاع شاهق، وجدوا الألمان يستسلمون أمامهم بأعداد ضخمة، إذ أفسح 700 جندي من قوات الحماية النازية SS الطريق أمام ذلك العدد الضئيل من الجنود الأمريكيين، بعد أن باتت نتائج الحرب محسومة لصالح الحلفاء.
وقد تمكن باش بدهائه من إقناع الألمان بأن عدد قواته كبير، وخرج من ذلك المأزق بسلام.
لكنه لم يكن مهتماً بالجنود المحيطين به، فقد كان هناك من أجل هايزنبرغ.
وبعد استجواب السكان المحليين، وجد باش العالم وعائلته في كابينة جبلية، وكان اليوم هو الثاني من مايو/أيار 1945، بعد يومين من انتحار هتلر في حصنه.
وتم في النهاية نقل العلماء الألمان إلى منزل آمن يُدعى فارم هول بإنجلترا.
وقد صرح العلماء علنًا بأنهم كانوا مناهضين للنازية، وكانوا يحاولون بعدوانية مستترة أن يعطلوا الأبحاث لكي لا يحصل هتلر على القنبلة.
وقد تنصتت الاستخبارات البريطانية سراً على فارم هول، وعلمت أن العلماء مبهورون بالنجاح الأمريكي في تفجير القنبلة الذرية في هيروشيما.
وقد كان أوتو هان، العالم الذي اكتشف الانشطار النووي، مناهضاً للنازية ولم يشارك في المجهودات البحثية الذرية الألمانية، وقال إنه يشعر بمسؤوليته شخصياً عن كل تلك الميتات البشعة التي نشأت عن اكتشافاته الأولية.
وفي حين لم يتمكن الأمريكيون من معرفة دوافع العلماء الآخرين بشكلٍ حاسم، فقد اتضح في النهاية أن ألمانيا لم تكن قد اقتربت من تطوير قنبلة ذرية فعالة.