"رسام الأرواح" أو "رسام النفوس" من الروائع الأدبية للكاتب والمحامي الكتلوني إلديفونسو فالكونس صاحب رائعة "كاتدرائية البحر" و"يد فاطمة". يفاجئنا فالكونس هذه المرة برواية جديدة وبقصة حب وعشق قوية وشغف بالفن والثورات الاجتماعية ذات الطابع الأممي في برشلونة الحداثية عاصمة إقليم كتالونيا.
في آخر أعماله، يدفع فالكونيس تقديراً جديداً لمدينته برشلونة، ليأخذنا إلى فترة تاريخية أخرى مثيرة للاهتمام في فجر القرن العشرين، حيث انتشرت الحركات الأناركية. وسيروي فالكونس في صفحات الرواية مغامرات دالماو، الرسام الشاب ذي الأصل المتواضع لكن بفضل موهبته سيشق طريقه في مجتمع مليء بالتناقضات.
ولقد أضحى فالكونس لبنة أساسية في الروايات التاريخية وفي الأدب الإسباني الحديث حيث حققت كتبه مبيعات خرافية، وقد كانت رواية "كاتدرائية البحر" ظاهرة نشر غير مسبوقة، عبرت الحدود والبلدان وفازت بجوائز مرموقة.
وسنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على أحدث رواياته "رسام الأرواح " وسنكتفي فقط بملخص مقتضب حول أهم شخصيات الرواية، التي رسمها فالكونس، والتي تقع بين جانبي الطبقة العمالية والطبقة البرجوازية وبعدها سننتقل إلى تقييم الرواية.
أحداث الرواية
الرواية تحتوي على جميع عناصر الحبكة الروائية المميزة للروايات التاريخية. وقت مضطرب يتسم بقلاقل وأحداث اجتماعية وسياسية متتالية، وشخصيات ذات مُثل وقيم راسخة تسبح ضد التيار الاجتماعي الذي رسمته لها السلطة وشخصيات الرواية التي تتشابك مع الواقع السياسي والاجتماعي. هؤلاء يحاولون التغلب على نجاحاتهم وإخفاقاتهم لوضع أحلامهم على سكة الطموح والنجاح. إنه الصراع من أجل حقوق العمال وصراعهم مع البرجوازية والكنيسة بسبب الاختلافات الكبيرة بين الطبقتين الاجتماعيتين. وسنتعرف أيضاً على الوجه الفني والثقافي ببرشلونة وأهم أعمال الحداثة التي رافقتها في هذه الفترة وكيف تقوم المدينة بتحويل روحها المعمارية والهندسية وإثراء نفسها. على الرغم من بؤس الطبقة العاملة وامتداد فترة اللامبالاة والنزاعات والإضرابات من عام 1902 إلى حدود 1932.
تبدأ القصة في برشلونة خلال السنة الأولى من القرن العشرين، دالماو سالا هو شاب ذو مبادئ وأفكار راسخة يعمل كرسام في ورشة للخزف، وأعدم والده بسبب معتقداته وأفكاره وهي نفس الأفكار التي غرسها في ابنه دالماو وشقيقته مونتسيرات والتي يعيش معها رفقة صديقته إيما التي تشاركهم ذات المعتقدات والأفكار.
رب عمله مانويل بيلو رجل برجوازي كاثوليكي، وهو محافظ أخلاقياً، سيحاول جذب دالماو إلى عالمه والتي ستكون فرصة مواتية لدالماو لتفجير طاقاته الإبداعية وستتاح لحياته فرص أكبر وأفضل في المجتمع البرجوازي، برغم كونه بن الثائر الأناركي الذي تم إعدامه بسبب معارضته للنظام الاجتماعي السائد آنذاك. وهذا ما جعل دالماو يعيش في صراع داخلي بين عالمين مختلفين، فهو ينتمي إلى أسرة معروفة المبادئ والمعتقدات. كما أنه يتشارك تلك المعتقدات مع إيما، الفتاة اليتيمة التي أحبها حباً سرمدياً، فكلاهما مدافعان عن كفاح العمال بطريقة شرسة أقرب إلى المحاربين. لكن عمله في ورشة الخزف تحت ظل برجوازي مكنه من الدخول إلى بيئة ستكون البداية لتفتق موهبته الفنية وبهذه الطريقة ستغريه العروض المقدمة من المجتمع البرجوازي الراغبة في شراء أعماله وضميره. وسيتعين على دالماو أن يجد طريقه الحقيقي كفنان ورجل ويبتعد عن السهرات والليالي الملاح التي ينظمها المجتمع المخملي والاهتمام بحب فتاته ومحبوبته الباسلة إيما، التي هي بلسم روحه المعذبة ومحرك فنه الأول.
ومع تسارع الأحداث وتوالدها بالرواية من خلال سلسلة من المواضيع الصعبة للغاية في ذلك الوقت يترجم الرسام دالماو آلام الناس من الطبقة العمالية ومن مختلف الأعمار برجالهم ونسائهم كبيرهم وصغيرهم، يترجم أرواحهم المعذبة من خلال ريشته وأعماله الفنية التي عبرت عن معاناتهم، أما محبوبته إيما فما زالت تقود المظاهرات والإضرابات ضد النظام البرجوازي المتحالف مع الكنيسة من أجل تحسين حقوق العمال والطبقات الاجتماعية المسحوقة تحت كنف هذا النظام، الذي تسبب في عدة آفات اجتماعية واقتصادية كالفقر وانتشار الاغتصاب والاختطاف.
تحتضن برشلونة تراثاً معمارياً وثقافيا وفنياً هاماً، نظراً لعدد من التأثيرات والموروثات الرومانية، والإغريقية والإسبانية، وأيضاً عربية وإسلامية بدرجة أقل، وهذا يتمثل في مختلف أرجاء هذه المدينة الساحرة. نشأ هذا التراث الفني إثر التنمية الخيالية التي عرفتها المدينة خلال القرن التاسع عشر والتي أعطتها انتظامها وعماراتها الأنيقة، وأضافت لها رونقاً خاصاً في بلورة استراتيجية.
الرسام دالماو، شخصية الرواية الرئيسية، التي اعتمد عليها فالكونس، تمكن من كسر النمط الذي تم إنشاؤه في الفن التصويري وترجمته في مباني برشلونة.
يقدم لنا الكاتب صورة بانورامية وجمالية قاتمة في مدينة تعيش في صراع طبقي كامل، مع برجوازية ثرية وغنية تتحكم في الينابيع الاقتصادية والثقافية، في مقابل الطبقة الاجتماعية التي شكلها العمال المظلومون. الصراع الذي سيكون بداية للفن الواقعي الاشتراكي والذي سيترجم أكثر عند ظهور الثورة البلشفية، هؤلاء العمال الذين يعيشون ظروفاً مزرية وغير إنسانية هي امتداد للثورة الصناعية التي نشأت في أوروبا. هذه النقطة منحت فالكونس الفرصة لبناء قصة تدور بشكل رئيسي حول" دالماو" و"إيما" المذكورين أعلاه ولكن مع العناصر الاجتماعية والسياسية والدينية، وجعلت برشلونة مثل برميل بارود ثابت سينفجر بأي لحظة، مما أثر ذلك بشكل جلي على الحياة الفنية والجمالية بمباني المدينة.
وفي كل هذا الصراع الاجتماعي كان الفن الحداثي إحدى اللبنات الأساسية في تعديل المظهر الفني والجمالي لبرشلونة، مع معلومات وفيرة عن البانوراما الفنية للمدينة الكتالانية في مطلع القرن العشرين، والذي سيؤثر بشكل واضح على هندسة القلب النابض لإقليم كتالونيا.
الاستنتاجات وتقييم الرواية
من خلال قراءتي لهذه الرواية يمكن استخلاص مجموعة من النقاط حول هذه الرواية ذات الأبعاد التاريخية والفلسفية الجمالية:
كالعادة بدأ فالكونس روايته من زاوية تاريخية موثقة مستلهماً قريحته الأدبية التي تسبح في بحر الخيال التاريخي. وذلك خلال سلسلة من الأحداث التي تتسارع، وأحياناً بطيئة ومليئة بالعواطف حيث تبرز الشخصيات التي تطفو على سطح الرواية خاصة دالماو وإيما طرفي القصة الرئيسية.
تجمع رواية "رسام الأرواح" بين مفاهيم الجمال الفني والعدالة والتي انعكست في الرواية من خلال أحداث وتحولات اجتماعية وسياسية كبرى عرفتها برشلونة في العصر الحديث، وهي امتداد للتحولات التي مرت بها الجزيرة الإيبيرية بحقبة الحرب الأهلية الإسبانية.
الأصول العامة لهذه الرواية هي القصة الرائعة لشخصياتها المختلفة من خلال إعادة تشييد المباني التي أضحت الآن رمزية وإشارات المهندسين المعماريين الذين أحدثوا ثورة في إعادة هندسة شوارع برشلونة. وقدم لنا فالكونس وصفاً رائعاً ومميزاً ﻷهم شوارع ومباني المدينة في بداية القرن العشرين، وهذا تجلى في الرمزية الفنية التي مثلها بطل الرواية "دالماو" حول أهمية عمله، مكاناً مهماً في الرقعة الروائية لرسام الأرواح، مما يثير مسؤولية الفنان بشكل صحيح من حيث وقته وقيمه الخاصة.
فيما يتعلق بشخصيات الرواية فقد تم بناؤها جيداً على الرغم من أننا رأيناها تقريباً في قصص أخرى مماثلة لفالكونس مثل شخصية إرناندو في رواية "يد فاطمة".
هناك تشابه نوعاً ما بين "رسام الأرواح" ورواية "الحنين إلى كتالونيا" لجورج أورويل حول القضايا العمالية والطبقة البرجوازية. وهي تندرج في نفس الفترة التاريخية التي انطلقت فيها شرارة الثورة ضد النظام البرجوازي ببرشلونة حيث كانت الحركات الأناركية والاشتراكية رأس حربة ضد نظام فرانكو.
رسام اﻷرواح هي رواية الخيال التاريخي النموذجية والتي تحتوي على العديد من العناصر التاريخية والفنية بالدرجة الأولى. المواضيع التي تعامل معها الكاتب هي ظهور الفن الحديث الذي أثر على الهندسة المعمارية، ولكن سنجد أيضاً الملصقات الإعلانية والجداريات الفنية التي رسمها الرسامون، وهو متداخل ومتشابك نوعاً ما مع احتجاجات الطبقة العاملة في الشوارع التي تناضل من أجل حقوقها وتحسين ظروف معيشتها.
البنية اللغوية لرسام الأرواح سهلة الفهم بالرغم من استعمال مصطلحات أكاديمي ولغة مثقفة ولكنها سهلة بالنسبة للقراء العاديين. وبالرغم من أن رسام الأرواح فيها فصول طويلة للغاية، وهذا ربما يشكل مللاً للقارئ إلا أنه من وجهة نظري يثري المعرفة والذاكرة التاريخية ببيانات تاريخية مثيرة للاهتمام خاصة وأن الرواية تؤرخ للمسار الأدبي والفني لشوارع برشلونة، وكأنها مستلهمة من مسارات ثربانتيس صاحب رائعة دون كيخوتي دي لامانشا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.