في البداية كان الدافع هو اسم كاتب العمل طارق إمام، واحد من أبرز الكُتاب علی الساحة، تتوالی الآراء حول عبقرية أعماله وجمالها، ومدی براعتها وخبراته الفنية، وتبدو "طعم النوم" أحدث أعماله كمغامرة جيدة لي، لكسر ملل حظر التجول وكفواصل جيدة بين التهام الكعك والبسكويت الذي سيصيبني حتماً خلال أيام بالتلبك المعوي.
الرواية تتقاطع مع روايتيّ الياباني ياسوناري كاواباتا، والكولومبي غابريل غارسيا ماركيز، "الجميلات النائمات" و"ذاكرة عاهراتي الحزينات" علی التوالي، وهنا يبدأ طارق إمام في عكس الحكاية، حيث تكتب فتاة نائمة الرواية وتحكي حكايات النساء اللائي لم يتحدثن أبداً.
لست من عشاق "الواقعية السحرية" كقارئ أو ككاتب، ولكن للأمانة قدرة طارق إمام على كتابة نص بديع ومراوغ كهذا جعلتني أقرأ "340" صفحة وأنا متفاجئ من قدرة إلقاء كل كور الخيط تلك في صورة حكايات غير مكتملة، ثم جمعها كلها مرة أخری، بل والأكثر صعوبة هو قدرة الكاتب علی نسج حكاية واحدة من خلال أكثر من حكاية، كلها بدت غير مكتملة ولن تكتمل، ولكن قبل النهاية يبدأ طارق إمام أخيراً في إبراز الحقائق واحدة تلو الأخری، وإفشاء أسرار ذلك المنزل الذي تنام فيه الفتيات العذاری مع رجال عجائز، ليس بهدف المتعة، بل بهدف التذكر.
"أكتب قصتي هذه وأنا نائمة. الناس يعتقدون أننا لكي نحكي قصة تخصّنا ينبغي أن نكون مستيقظين، كأن علينا أن نحمي حياتنا مرتين، حين نعيشها وحين نرويها. وأنا أقول إن أحداً لا يستطيع أن يروي قصته الحقيقية، أو ما يظنها قصته الحقيقية، دون أن يكون مغمضاً".
"يكتب النوم هذه القصة، بلغته، لغة يستحيل علی يدي المستيقظة أن تمتد إلی معجمها لتصيغ عبارة. إنها إرادته هو، وسواء تعلمت بعض الكلمات أو لم أقرأ حرفاً علی الإطلاق، فإنه يسرد هذه الحكاية نيابةً عني، ففي النوم يصبح الجميع شعراء".
"أن تحكي حكاية يعني، ببساطة، أن تعيش عوضاً عن آخرين، وفور امتلاكك القدرة علی ذلك، تستطيع أن تحكي أي حياة لم تعشها خيراً من أصحابها".
الحكايات متداخلة وغريبة، ساحرة وسحرية، مربكة، وتبدو في بعض الأحيان مرتبكة وغير محبوكة أو غير كاملة، لكن الرواية تكمل قراءتها لك، وكأنها هي مَن تختارك وليس أنت مَن تختارها، وتبدأ في كل خطوة في إبراز تفاصيلها والبوح بأسرارها.
يحكي طارق إمام عن رغبته في كتابة رواية متقاطعة مع روايتين سابقتين، ويمارس مهنته كحكّاء في الحديث باستفاضة عن العملين، وفي نفس السياق يحبك روايته جيداً ويلضم الكلمة بالأخری صانعاً ثوباً رائعاً لرواية يعد صاحبها من أبرز المجددين في السرد المصري الحديث، والرجل المغرم بالتجريب دائماً.
البداية هي الأكثر إرباكاً، تبدأ وأنت لا تفهم ما معنی أن تكون الإسكندرية مدينة الرواية كئيبة هكذا محاطة بالعسكر ومليئة بالعجائز، لا تفهم معنی أن يكون هناك منزل قائم كبيت دعارة ولكن لا يتم فيه ممارسة الدعارة، بل إن هذا بالذات -أقصد ممارسة الدعارة- يعد من الخطايا التي تستوجب عقاب من يقعون في هذا الشرك، ولا ينفع مع فعلتهم هذه إلا القتل كعقاب وتكفير للذنب. بعد ذلك تبدأ الأسماء في الظهور، شهرزاد والست روزا الصغيرة والكبيرة والشقيقة الميتة وأختها التي تود الانتقام، ثم يظهر كاواباتا وماركيز أصحاب النصوص السابقة علی الخط ويستطرد طارق إمام في الحديث عن نصوصهم السابقة، ثم يتحدث عن رغبته في كتابة نصّ معاكس لنصوصهم، ويختار أداة الكتابة المناسبة التي تكون فتاة لا تنام في سرير واحد مرتين، لنعلم حقيقة الفتاة في النهاية، ونعلم حقيقة الرجل الذي بلا اسم في رواية ماركيز، بل إننا نعلم قصص السيدتين "روزا" والكثير من التداخل الذي يحتاج عقل يقظ لربط الأحداث ببعضها، ليجد في النهاية رواية ممتعة ومسلية جداً، وعمل فني مكتوب بإخلاص واحترافية عالية تنمّ عن قدرة الكاتب في وضع نص يضاهي عبقرية نصيّ الياباني والكولومبي سابقيه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.