أساطير عديدة حيكت حول إسبرطة، المدينة اليونانية التي حكمت العالم القديم فترة قصيرة في القرن الخامس قبل الميلاد والتي قيل إنها أُسست من قِبل أحد أبناء زيوس وإن رجالها لم ينالوا حظهم من الثقافة والتعليم؛ بل خُلقوا ليكونوا محاربين متوحشين.
لكن من المثير للاهتمام، أن كل ما قيل عن إسبرطة عبر التاريخ كُتب من قِبل أشخاص من خارج المدينة، أو من قبل أعدائها المتمثلين تحديداً بسكان أثينا، بينما لم ينجُ نص واحد مكتوب بقلم إسبرطي ليروي لنا قصة المدينة من وجهة نظر أهلها في الداخل.
ووفقاً للمؤرخ والمؤلف نايجل كينيل، يستحيل علينا أن نعرف "حقيقة" هذه المدينة، لكن مع ذلك من الممكن استنباط بعض الحقائق التاريخية عن الإسبرطيين من خلال مقارنة النصوص التاريخية التي تحدثت عن هذه المدينة.
فهل كان الصبية الإسبرطيون يُخطفون من عائلاتهم ليعيشوا في ثكنات عسكرية لتدريبهم على القتال؟ وهل كان الجنود الإسبرطيون راقصين محترفين كما كانوا جنوداً شديدي البأس؟ وهل فعلاً كانت النساء الإسبرطيات حلماً لكل شاب يوناني؟
إليكم ما لا تعرفونه عن إسبرطة، وفقاً لما ورد في الموقع الإلكتروني الأمريكي How Stuff Works.
إسبرطة .. المدينة التي ظلمها التاريخ
حالها كحال أثينا، كانت إسبرطة "مدينة دولة"، فعلى الرغم من أنها جزء من اليونان فإنها تمتعت بحكم مستقل، وبلغت ذروة قوتها من عام 550 إلى 350 قبل الميلاد.
يقول كينيل، مؤلف كتاب Spartans: A New History (الإسبرطيون: تاريخ جديد): "هناك كثير من الناس الذين يخبروننا بماذا كان يفكر الإسبرطيون، ولكننا لا نعرف ما الذي يعتقده الإسبرطيون أنفسهم. ولهذا فإن الصورة مشوَّشة. ويحب الناس خارج إسبرطة استخدامها لإثبات أحكامهم الفكرية، والفلسفية، والسياسية المتحيزة ضدها".
إن المنظور الخارجي لإسبرطة خلق ما يُطلق عليه المؤرخون "السراب الإسبرطي"، وهو مسؤول عن خرافتين متناقضتين عبر التاريخ: إما أن إسبرطة كانت مجتمعاً فاضلاً قائماً على التناغم الشعبي والطاعة، وإما أنها كانت نظاماً شموليّاً بائساً.
ويرجح كينيل أن الخرافتين كلتيهما خطأ، أو أننا على الأقل لا نملك أي مصادر موثوقة لدعم أيهما.
تتمثل الطريقة الوحيدة للحديث عن إسبرطة فعلاً في مقارنتها مع أثينا، التي خاضت معها حرباً استمرت ربع قرن وأطلق عليها اسم الحرب البيلوبونيسية.
فأثينا هي المدينة الوحيدة التي كتبت تاريخها كاملاً.
يقول كينيل: "كانت هناك مئات من المدن اليونانية، ولكننا لا نعرف أي شيء عنها. وأثينا هي المدينة الوحيدة التي يسعنا الحصول على سرد مفصل ومترابط حول شؤونها الداخلية. وعندما تقارن أثينا بإسبرطة، فإنك تجد أنهما مختلفتان كثيراً، ولكن من الصعب القول إن كانت إسبرطة تختلف عن أثينا أكثر أم عن أي مدينة يونانية أخرى لم تكن ديمقراطية".
المواطَنة في إسبرطة كانت امتيازاً، وليست حقّاً
مثلما يقول كينيل، يتمثل أحد أكبر الاختلافات بين أثينا وإسبرطة في أن أثينا كانت ديمقراطية، وكان لكل مواطن (المقصود هنا الذكور الراشدون الأحرار) الحق في الإدلاء بصوته وفي خوض الحياة السياسية.
أما إسبرطة فكانت محكومة من قِبل الملوك، إذ حكمها ملكان في وقت واحد على نحو غريب، فيما يطلق عليه "الحكم الثنائي"، وكانت المواطَنة مقتصرة على فئة صغيرة من الذكور المولودين أحراراً يطلق عليهم اسم Spartiatai.
يقول كينيل: "لم تكن المواطَنة في إسبرطة حقّاً أكثر من كونها امتيازاً يمكنك أن تخسره".
الشرط الأول للحصول على المواطنة كان اجتياز تدريب إجباري يُسمى Agoge أو التأهيل البدني.
وكان يطلق على المنسحبين منه "ذوي المنزلة الدنيا"، إذ كانوا يحرَمون من حق الإدلاء بصوتهم أو من الخدمة في عديد من الهيئات الحاكمة.
والطريقة الثانية لخسارة المواطنة كانت عدم المساهمة في إمداد صالات الطعام الشعبية بالغذاء والنبيذ، وهي صالات كان يأكل فيها الذكور حتى بلوغ سن الرشد.
هل كانت إسبرطة دولة عسكرية؟
كان الإسبرطيون -مثلهم مثل عديد من اليونانيين- لديهم رؤية عسكرية، ولكن يعتقد كينيل أنه من غير العادل قول إن المجتمع الإسبرطي برمته ذو عقلية موحَّدة موجهة إلى صنع الجنود.
فيقول: "كانت مصممة لإنتاج مواطنين، ويُعد كون المرء محارباً جزءاً مهمّاً من كونه مواطناً حسب المفهوم اليوناني. فكل رجل يتمتع بالقدرة البدنية يحارب من أجل مدينته، والمراوغة في ذلك جريمة كبيرة، حتى في أثينا".
وفي حين أن بعض أشكال التدريبات الحربية كانت مشتركة بين المدن الدول اليونانية، وضمن ذلك أثينا، فقد أضفت إسبرطة الصبغة الاحترافية على دور الجندي.
خلال التدريب البدني، كان يجري تعليم الشباب الإسبرطي وتدريبهم ليصبحوا جنوداً طوال حياتهم ومواطنين عليهم واجبات.
كان الصبية يعيشون في مجموعات مع قائد، وكان لا يُقدَّم إليهم طعام كافٍ عن عمد؛ لتشجيعهم على سرقة الطعام، وكانوا يُضرَبون إن لم يطيعوا الأوامر أو إن تم الإمساك بهم في أثناء السرقة.
ويؤكد كينيل خطأ معلومة أن الصبية الإسبرطيين كانوا يختطفون من أسرهم ويجبرون على قضاء بقية حياتهم في الثكنات العسكرية.
فيقول: "لقد كان الإسبرطيون شعباً يهتم بمفهوم العائلة. وليس هناك أي دليل موثوق يفيد بأن الأطفال كانوا يؤخذون من عائلاتهم في سن السابعة ليعيشوا منفردين في الثكنات، وأنهم لا يتصلون بعائلاتهم أبداً". فكان يبدو أن المداومة على التدريب تكون لبعض الوقت.
المصارعة والسرقة والرقص
يقول كينيل إن الصبية والشباب الإسبرطيين يتلقون "تعليماً" محدوداً في أثناء التدريب البدني، عكس الأثينيين الذين كانوا يتلقون تعليماً وافياً يشمل الفلسفة، والعلوم الطبيعية، والرياضيات، إذ كان التعليم في إسبرطة رياضياً وشبه عسكري.
واعتقد اليونانيون أن هناك علاقة وثيقة بين التفوق الرياضي والحروب، وكان الشباب الإسبرطيون يتدربون ويتنافسون في جميع الأحداث الرياضية اليونانية؛ مثل الجري، والمصارعة، والملاكمة، ورمي الرمح، وربما الرماية.
هذا، وكتب المؤلفون اليونانيون في فترات تالية، عن منافسات غريبة وألعاب مرتفعة المخاطر يمارسها الشباب الإسبرطي لتهيئتهم للمعارك.
وصف المؤرخ اليوناني كسينوفون لعبة كانت تمارَس في ملجأ أرتميس أوراثيا، إذ توضع قِطع من الجبن على المذبح، ويحاول فريقان من الصبيان سرقتها وهم يجرون، عبر أيادٍ مسلحة بالسياط.
ويقول كينيل: "كان الفائز هو من يسرق أكبر كمية من الجبن. إنه طقس غريب!".
كان الصبية الإسبرطيون راقصين مشهورين أيضاً، حسب كينيل، إذ كانوا يتدربون على رقصات متقنة، "يحرص" الكُتاب وكبار الشخصيات التي تزور إسبرطة على مشاهدتها.
إلا أن الرقص في إسبرطة لم يكن صورة خالصة من صور الفن، ولكنه كان يساعد الجنود في المسيرات العسكرية وفي تنسيق المناورات المتقدمة بساحة القتال.
النظام الطبقي في إسبرطة
كان الإسبرطيون الذين يتمتعون بالمواطنة الكاملة جنوداً لحياتهم كاملةً بشكل أساسي، وكان ولاؤهم للدولة ثمناً لحريتهم من جميع الأعمال الأخرى. فمن كان يؤدي الأعمال الأخرى؟
كان المجتمع الإسبرطي منظَّماً في شكل هرمي، يعتلي قمته مجموعة صغيرة من الإسبرطيين المولودين أحراراً.
وتحتهم كانت طبقة الـPerioikoi، التي تعني "هؤلاء الذين يعيشون في الجوار".
فقد كانت مملكة إسبرطة ممتدة عبر عشرات البلدان والقرى الصغيرة، وكانت طبقة الـPerioikoi تعيش في تلك البلدان والقرى بوصفهم حرفيين مهرة في صناعة الدروع، والمنسوجات، والمنتجات البرونزية، وجميع البضائع التي تُصدَّر.
يقول كينيل إنه في القرن السابع وبدايات القرن السادس قبل الميلاد، كانت الثقافة الإسبرطية تزدهر على أيدي الحرفيين في تلك الطبقة.
ويضيف: "من المعروف منذ وقت طويل، أن أفضل منتجات العاج باليونان في القرن السابع قادمة من هناك، وأيضاً كانت منتجات البرونز الإسبرطية مذهلة حقّاً".
والسؤال المهم الذي لم يجد له المؤرخون أمثال كينيل إجابة هو سبب توقف هذا الإبداع الكبير في أواخر القرن السادس، إذ بدأ الإسبرطيون يُكسبون أنفسهم صيتاً بأنهم قساة، وغير متعلمين، وغير مثقفين.
وكانت الطبقة الدنيا في المجتمع الإسبرطي تضم الـHelots أو العبيد الذين يقومون بجميع الأعمال اليدوية بداية من الزراعة وحتى البناء.
إذ تعني كلمة Helot "الأسير"، ويعتقد كينيل أن كثيرين من المنتمين إلى هذه الطبقة كانوا من سكان ميسينيا السابقين، التي غزتها إسبرطة وتغلبت عليها في القرن السابع قبل الميلاد.
ويقول كينيل إن حياة عبيد تلك الطبقة في إسبرطة كانت أشبه بحياة العبيد في العصور الوسطى من العصور القديمة.
فقد كانوا "غير أحرار" ولا يتقاضون أجوراً، ولكنهم لم يقيدوا بالسلاسل.
كانت نساء إسبرطة متميزات
مقارنة بالوضع في أثينا، كانت نساء إسبرطة يتمتعن بمزيد من الحقوق والحريات.
ففي أثينا، كانت المرأة المثالية لا تُرى ولا تُسمع. وهناك مقولة شهيرة لرجل الدولة الأثيني بريكليس تقول إن "المجد الأكبر للمرأة يتمثل في قلة الحديث عنها؛ سواء كان المتحدثون يمدحونها أو ينتقدونها".
وفي حين كانت نساء أثينا مكبوتات، ويصفهن كينيل بالـ"مقهورات"، فإن نساء إسبرطة كان لهن الحق في امتلاك الأراضي ملكية مباشرة، وكن معروفات خلال تاريخ اليونان القديم بحرية التعبير والذكاء، بالإضافة إلى الجمال الأخاذ.
وأشهر نساء إسبرطة هي الملكة جورجو، زوجة الملك ليونيداس الذي مات بطلاً في معركة الثرموبايلي مع أكثر من 300 محارب إسبرطي.
وفي صغرها، أنقذت جورجو مملكة أبيها عندما حثته على رفض رشوة كبيرة من مسؤول أجنبي ظل يعظّم قيمتها.
فقالت له، وفقاً للمؤرخ اليوناني هيرودوت: "يا أبتاه، إن زائرك هذا سوف يفسدك إن لم تقم وترحل عنه".
وكتبت المؤرخة هيلينا شترادار: "لن تجد في أي مدينة يونانية أخرى بخلاف إسبرطة أي أنثى مهما كان عمرها، يُسمح لها بالوجود، والاستماع، والاهتمام في اجتماع بين رئيسين".
كانت الفتيات والسيدات في إسبرطة أيضاً يتنافسن في الأحداث الرياضية، وكن أيضاً يرقصن مرتدياتٍ الزي العسكري علناً، ما أثار صدمة اليونانيين الآخرين.
يقول كينيل: "اشتُهرت فتيات إسبرطة بجاذبيتهن. فقد كنَّ رياضيات وكن يجرين في الأرجاء مرتدياتٍ سترات قصيرة ذات فتحات عند الأفخاذ. وكان كثير من رجال أثينا المحبطين يحلمون بنساء إسبرطة".
كان سقوط إسبرطة سريعاً
يعتقد كينيل أن الانتصار في الحرب البيلوبونيسية كان أسوأ شيء يحدث لإسبرطة من بعض النواحي. فقد أصبح بطل الأسطول البحري الإسبرطي ليساندر أقوى رجل في العالم اليوناني، وأجبر الدول المهزومة على القَسم بالولاء ليس لإسبرطة، وإنما له.
حاولت إسبرطة غزو بلاد فارس ولكنها فشلت، بينما ازداد غضب المدن الدول اليونانية اشتعالاً تحت الحكم الإسبرطي. وفي فترة قصيرة، انهار العصر الذهبي لإسبرطة.
يقول كينيل: "لم تضع إسبرطة أي آلية لإدارة تلك الإمبراطورية الكبيرة، لم تتمتع بالعقلية المناسبة للتعامل معها. لم يكن الأمر مشابهاً لما فعله الرومان الذين نجحوا بشكل كبير في اختيار النخب المحلية للحكم بالنيابة عنهم. فقد أراد الإسبرطيون الطاعة فقط، ولم ترُق تلك المعاملة للشعوب الأخرى".
وهكذا، سقطت إسبرطة على يد طِيبة في معركة ليوكترا الفاصلة عام 371 قبل الميلاد، وغزا جيش طِيبة بعد ذلك الأراضي الإسبرطية وحرروا طبقة عبيد ميسينيا.
ومن دون تلك الطبقة المهمة العاملة في الزراعة، لم تستطع إسبرطة التعافي قط.