قبل سنتين ناقشنا من خلال سؤال "هل تندثر الثقافة في زمن العالم الافتراضي" مستقبل الثقافة في ظل تصاعد الاهتمام بوسائل التواصل الاجتماعي وازدياد عدد من يرتادون المواقع والمنصات الإلكترونية، بحيثُ يفوقُ دور هذه الوسائط الإعلام التقليدي، بل أصبحتَ مصدراً رئيساً للأخبار، ويتابعُ الجمهورُ من خلالها منشورات السياسيين والنجوم والأدباء، كما قد تتحولُ إلى حلبة للمناوشات الكلامية بين المُتخاصمين سياسياً أو فكرياً أو عقائدياً.
إذاً فإن ما يصطلحُ عليه بالعالم البديل كان يثيرُ الشكوكَ والريبة لدى المهتمين بالمجال الثقافي، وبرأي هؤلاء فإنَّ البيئات الافتراضية تقوّض دعائم الفكر وتندثر الثقافة في أثيرها، وما يكونُ بديلاً عبارةً عن ظاهرة التحذلق الفيسبوكي والسطحية.
ومن الطبيعي أنْ تتخذَ المخاوف منحى أكثر حدةً من الشبكة العنكبوتية في المجتمعات التي يتأرجحُ أفرادها بين الاستجابة لمتطلبات التحديث والتمسك بالأصالة، ناهيك عن تفاقم ظاهرة الرُّهاب لدى هذه الفئة من خسارة رأس المال الفكري، الأمر الذي شغلَ النخبة المثقفة في بعض المجتمعات الغربية أيضاً لاسيما بعد انحسار مفهوم الخصوصية المحلية والانفتاح على العالمية، إذ غدا الفردُ متحرراً ولو نسبياً من إكراهات بيئته المحلية، وحقق مزيداً من الاستقلال بما وفرَ له العالم الافتراضي من فرصة التواصل ومخاطبة الآخر المختلف والمقارنة بين الوضعيات المتباينة على الصعيد الحياتي والأنظمة السياسية.
غير أنَّ المنضوين ضمن التيار المحافظ يرون في ذلك تهديداً لبنية المجتمع وانشطاراً للهوية وينضمُّ سدنة الثقافة الأحادية إلى الجبهة المناهضة لمعطيات العالم الافتراضي.
لكن من المناسب هنا والعالمُ يمرُ بأزمة غير مسبوقة، إذ انسحب الجميع إلى المنازل وعبارة "ابق في بيتك" صارت شعاراً عالمياً، طرح سؤالٍ عن وضع المجتمعات في ظل الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي وتعطيل النشاطات الثقافية والرياضية، إضافة إلى وقف الدراسة وإغلاق دور العبادة والأماكن العامة دون وجود العالم البديل؟ ربما هناك مَن يقولُ إن الإنسان كائنُ يتأقلمُ مع شتى الظروف، وبالتالي يتحملُ العزلة الكونية والمقاطعة ويتعايشُ مع الوضع القائم، طبعاً قد لا يجانبُ هذا الرأي الصواب كله. بيد أن الخسائر كانت تتضاعفُ على الأصعدة كافةً، وتراخى المواطنون في التقيّد بالإرشادات الصحية في حالة غياب ما يعوضُ بعض نشاطاتهم في الواقع الفعلي. إذ أطلقت بعض مراكز الأكاديمية والجامعات خدمة التعليم الإلكتروني. كما أنَّ الوسائط الإلكترونية لعبت دوراً في توعية صحية.
أفق التطور
صحيح قد يتفاوت مستوى المجتمعات في مواجهة هذا الواقع واستيعاب التحديات، لكن المشاريع الثقافية والفكرية والمبادرات التي دشنها الناشطون من على صفحاتهم تؤكدُ أنَّ منفعة الوسائل الجديدة مرتبطة بأفق التطور العقلي وطريقة استخدامها. وبينما تم إلغاء معارض الكتب والندوات الثقافية بعدما داهمَ فيروس كورونا المجتمعات برمتها، بدأ مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي بإطلاق مبادرات متنوعة.
واللافت في هذا السياق هو دعودة الأصدقاء بعضهم لنشر غلاف الكتب التي كان لها تأثير على تكوينهم الثقافي، هذا إضافة إلى ترشيح الأفلام وتقديم محتوى الأعمال السينمائية بما يمكّنُ المتابعَ من معرفة الفكرة والموضوع، أكثر من ذلك فإنَّ عدداً من المتاحف العالمية وفرت خدمة التجول في صالاتها افتراضياً، وبذلك تحققت الفرصة لمحبي الفنون والآثار لمشاهدة الأعمال والمنحوتات القيمة، وانفتحت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي على حفلات غنائية مباشرة، كما انتشرت على نطاق واسع أغنيات كورونية مداعبة، والحال هذه فإن المعلومات تتوالى في الاستمرار بشأن آراء الفلاسفة وما يرشحُ من المختبرات العلمية حول الوباء.
ولم يتوقف الحديث عند هذا الحد بل بدأ السؤال يدور حول شكل الحياة في مرحلة ما بعد كورونا. وبالطبع فإنَّ الفضاء الافتراضي يحتوي على الوفرة المعلوماتية وتصطخبُ على مساحته المتمددة النقاشاتُ، بحيثُ يكون صورة لديمقراطية تفاعلية. ولا وجودَ لآراء محصّنة من النقد في تلك المنصات المشرعة على كل الاتجاهات.
الاختراق
إذا كان العالم قد تحول إلى غرفة بملايين الجدران بفعل سرعة تفشي الوباء وعبوره للمحيطات والأسوار فإنَّ المشاريع الثقافية والفنية التي أطلقت على صفحات التواصل الاجتماعي قد اخترقت جدار العزلة وعوّضت النشاطات المؤجلة في واقعنا الفعلي، ولعلَّ من أبرزِ ما حظي بالمشاهدة في هذا الإطار هو برنامج المكتبة الذي أطلقه الكاتب التونسي كمال الرياحي، إذ شارك عدد من الأدباء في حلقاته، ويهدفُ هذا المشروع إلى إشراك المبدع اهماماته في القراءة مع المتابعين، إذ غالباً ما تكونُ المشاركة بقراءة نصٍّ أو مراجعة عمل أدبي. ويحاولُ الرياحي توسيع حلقة المشاركة، فلا تنحصرُ في بمحددات جغرافية وانتماءات فرعية.
ومن جانبها دشنت دار الرافدين مشروعاً ثقافياً من خلال حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو عبارة عن سلسلة من الحوارات مع المفكرين والأدباء والمترجمين بدأت بعنوان موسم الرافدين الثقافي وتستمرُ لمدة شهر. صرح الصحافي حسن أكرم وهو من القائمين على المشروع بأنَّ تفاعل الجمهور مع مبادرة الرافدين مشجع؛ إذ طلبَ المتابعون تمديد وقت بعض الحلقات الحوارية.
وقد يكون نجاح هذه النشاطات الثقافية عاملاً لإنشاء مزيد من الصفحات بمحتويات معرفية وثقافية زاخرة. إذاً فتجربة العالم مع فيروس كورونا قد حدت بنا للتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها إمكانيةً متاحة لتأسيس المشاريع وإطلاق المبادرات. قبل اختراع الطباعة كانت الكتب من مقتنيات الطبقة الأرستقراطية تزينُ بيوتهم، لكن مع ظهور الآلة الجديدة توفرت فرصة القراءة واقتناء عدد أكبر من الأشخاص من خلفيات اجتماعية متعددة، وبذلك نهض الفكر ودخلت البشرية إلى مرحلة جديدة والحال لا تختلف بالنسبة لدور وسائل التواصل الاجتماعي فمع انتشارها أصبحت المعلومة أكثر ديمقراطية، ولم تعد النقاشات الفكرية والمعرفية امتيازاً نخبوياً، حتى الجوائز التي ترصد للأعمال الأدبية لابدَّ أن تخرجَ من دوائر نخبوية ضيقة إذا أريد لها الاحتفاظ بقيمتها المعنوية، فربما يفهمُ من إقامة حفل منح جائزة بوكر بنسختها العربية لهذه السنة أونلاين اعتبار ذلك بدايةً انفتاح كل الفعاليات النخبوية على العالم الافتراضي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.