ينشغل صانعو القرار في دول العالم حالياً بتحديد كيفية إعادة فتح بلادهم بعد أسابيع الإغلاق بسبب جائحة كورونا، ويقف بعضهم أمام كفتين: الأولى تحمل أرواح الناس، والثانية تغري بإعادة تدوير عجلة الاقتصاد التي توقفت لأسابيع.. ويحتدم هذا النقاش كثيراً في أمريكا، بين ترامب الذي يؤيد إعادة تدوير عجلة الاقتصاد سريعاً، وبين السياسيين الخائفين من التسرع بخطوة قد تودي بحياة الآلاف.
لكن ماذا يختار صانعو القرار؟ الإجابة قد نجدها في التاريخ. إذ يظهر التاريخ أنه، في أعقاب الكوارث، تُهدَر الحياة البشرية لصالح الضرورات الاقتصادية.
أستاذ التاريخ بجامعة جنوب كاليفورنيا الأمريكية، بيتر مانكال، استعرض الإجابة في تقرير نشره موقع Salon الأمريكي، باعتباره مؤرِّخاً للفترات المُبكِّرة من تاريخ أمريكا، ورأى اعتباراتٍ مماثلة تُطرَح في مواجهة تفشي الأمراض في القرن السابع عشر، حين ثقلت كفة المصالح الاقتصادية لقلةٍ مُختارة عن كفة المخاوف الأخلاقية.
زراعة التبغ.. قصة حب أزهقت حياة الآلاف واضطرت لأكل لحوم البشر
خلال القرن السادس عشر، وَقَعَ الأوروبيون في حبِّ التبغ، ذلك النبات الذي زُرِعَ في القارة الأمريكية. استمتع الكثيرون بإحساس التبغ، مثل زيادة الطاقة ونقصان الشهية، ومعظم مَن كَتَبَ عنه ركَّزَ على منافعه الطبية، مُعتبرين إياه معجزةً طبية يمكنها علاج اعتلالاتٍ بشرية مُتنوِّعة (لكن ليس الجميع احتفى بهذا النبات، فقد حذَّرَ الملك جيمس الأول، ملك إنجلترا، من أنه يمثِّل عادةً خطيرة).
لكن في مطلع القرن السابع عشر، تنامت رغبة الإنجليز في تأسيس مستعمرةٍ دائمة في أمريكا الشمالية، بعد الفشل في تحقيق ذلك في مستعمراتٍ مثل نونافوت وروانوك. رأوا فرصتهم التالية على طول نهر جيمس، أحد روافد خليج تشيزابيك. وبعد تأسيس جيمس تاون في 1607، سرعان ما أدرك الإنجليز أن المنطقة مثاليةٌ لزراع التبغ.
غير أن القادمين الجدد لم يعلموا آنذاك أنهم استوطنوا أرضاً خصبة لتفشي البكتيريا المُسبِّبة لحمى التيفويد والديزنطاريا (الزحار). من 1607 إلى 1624، سافَرَ 7300 مهاجر، معظمهم من الشباب، إلى فيرجينيا. وبحلول العام 1625، نجا منهم 1200 فقط.
زاد عدد الضحايا مع انتفاضة طائفة الباوهاتان، والنقص الحاد في الطعام، لكن معظم مَن لقوا حتفهم ماتوا بسبب المرض. كان الوضع بائساً إلى درجة أن بعض المستعمرين، الضعفاء للغاية على بذل مجهودٍ لإنتاج الغذاء، لجأوا إلى أكل لحوم البشر.
أدركت شركة لندن في فيرجينيا أن مثل هذه القصص قد تنفِّر المهاجرين المُحتَمَلين، فأصدرت منشوراً يعترف بالمشكلة لكن يُشدِّد على أن المستقبل سيكون أكثر إشراقاً.
وهكذا واصَلَ المهاجرون الإنجليز المجيء، إذ جُنِّدوا من جيوش الشباب الذين انتقلوا إلى لندن بحثاً عن العمل، لا لشيءٍ إلا ليجدوا فرصاً شحيحة. وافق الكثيرون منهم، مِمَّن يحاصرهم البؤس والبطالة، على أن يصبحوا خدماً بعقودٍ مكتوبة، ما يعني أن يعملوا لدى صاحب مزرعةٍ في فيرجينيا لفترةٍ من الزمن مقابل المرور عبر المحيط وتعويضٍ في نهاية فترة العقد.
تنامى إنتاج التبغ، ورغم انخفاض السعر نتيجة الإنتاج المُفرِط للمحصول، جنى أصحاب المزارع ثرواتٍ طائلة.
الطاعون والحريق الكبير.. حوّل الخدم إلى عبيد يباعون ويشترون
هناك مرضٌ آخر شكَّلَ الفترة المُبكِّرة من تاريخ أمريكا، حتى رغم أن ضحاياه كانوا بالآلاف على امتدادِ أميالٍ بعيدة. في عام 1665، ضرب الطاعون الدبلي لندن. وفي العام التالي، التهَمَ الحريق الكبير في لندن معظم البنية التحتية بالمدينة. وتُظهِر قوائم الوفيات، علاوةً على مصادر أخرى، أن سُكَّان المدينة قد انخفض تعدادهم بنسبة 15 إلى 20% خلال تلك الفترة.
لم يكن هناك ما هو أسوأ من هاتين الكارثتين المتزامنتين بالنسبة للمزارعين الإنجليز في فيرجينيا وميريلاند. ورغم زيادة الطلب على التبغ، قرَّرَ الكثير من الخدم الذين حصلوا على عقود، من الموجة الأولى من المُجنَّدين، أن يكوِّنوا عائلاتٍ ويبنوا مزارع خاصة بهم. كان المزارعون بحاجةٍ ماسَّة إلى عمالٍ للعمل بمزارع التبغ، لكن العمال الإنجليز كان بإمكانهم أن يهاجروا وجدوا عملاً في وطنهم في إعادة بناء لندن.
ومع قلة عدد القادمين من إنجلترا، بدا أن هناك بديلاً تتزايد جاذبيته في عيون المزارعين؛ ألا وهو تجارة العبيد. وصل أوائل الأفارقة المُستعبَدين إلى فيرجينيا في العام 1619، وتزايدت أعدادهم بشكلٍ كبير في الستينيات من القرن نفسه. وفي الثمانينيات، ظهرت أول حركة لمناهضة تجارة العبيد في المستعمرات، وبحلول ذلك الوقت كان المزارعون يعتمدون على عمالة العبيد المستوردين.
إلا أن المزارعين لم يكونوا بحاجةٍ إلى إعطاء الأولوية لإنتاج التبغ الذي يتطلَّب عمالةً كثيفة. ولسنواتٍ من الزمن، كان قادة المستعمرات يحاولون إقناع المزارعين بزراعة محاصيل تتطلَّب عملاً أقل، مثل الذرة. لكن بريق المال أعماهم، وظلوا متمسِّكين بالمحاصيل التي تدر ربحاً أكبر -وفتحوا أذرعهم ترحيباً بسفينةٍ تلو الأخرى لما على متنها من عمالةٍ مُقيِّدة الأيدي. كان الطلب على التبغ يفوق أيَّ شكلٍ من الاعتبارات الأخلاقية.
لم تعد العبودية المُقنَّنة ونظام عقود الخدم قائمين في الاقتصاد الأمريكي، لكن الاستغلال الاقتصادي لا يزال موجوداً.
فمع تصاعد الخطاب المُعادي للمهاجرين، الذي يصدر من المكتب البيضاوي على مدار السنين الأخيرة، تستمر الولايات المتحدة في الاعتماد بشدةٍ على العمال المهاجرين، بما في ذلك عمال المزارع.
وقد زادت أهمية وجودهم خلال الجائحة، حتى أن الحكومة أعلنت أنهم "عمالٌ أساسيون". وبعدما أعلن ترامب حظر الهجرة في 20 أبريل/نيسان، استثنى القرار التنفيذي عمال المزارع وعمال فرز لحوم السلطعون، الذين تزايد عددهم في الحقيقة تحت حكم إدارته.
لذا حتى قبل أن تتخيَّر الولايات ما إذا كانت ستعيد فتح الأعمال غير الضرورية، كان هؤلاء العمال في الخطوط الأمامية، يعملون وينامون في ظروفٍ غير صحية، وتتعرَّض مناعتهم للخطر نتيجة تعاملهم مع موادٍ كيميائية ضارة، مع حصولهم على القليل من الرعاية الصحية المناسبة.
إلا أنه بدلاً من مكافأتهم على أداء هذا العمل الأساسي، نرى البعض في الحكومة يحاولون تخفيض أجورهم إلى أقل مما هي عليه، بينما يمنحون مُلَّاك المزارع حِزَم إنقاذٍ بمليارات الدولارات.
سواء كان ذلك طاعوناً أو جائحة، تظلُّ القصة كما هي، إذ يسود السعي إلى الأرباح على المخاوف المُتعلِّقة بصحة البشر وفقاً لرأي أستاذ التاريخ بجامعة جنوب كاليفورنيا.