في 29 أبريل/نيسان 1915 هزم الجيش العثماني القوات البريطانية في معركة كوت العمارة، بعد حصار وُصف بالأطول والأشد في الحرب العالمية الأولى.
أما الهزيمة فوصفها مؤرخون بريطانيون بأنها الاستسلام الأكثر شناعة وإذلالاً في تاريخ بريطانيا العسكري، إذ بعد 147 يوماً من الحصار، انتهى الأمر برفع جيش بريطانيا العظمى الراية البيضاء دون قيد أو شرط..
فلنعُد بالزمن إلى معركة كوت العمارة
المكان: مدينة الكوت على نهر دجلة ونحو 180 كم جنوب بغداد.
الزمان: 29 أبريل/نيسان 1915.
الخلفية السياسية: في الحرب العالمية الأولى انقسمت الدول إلى حلفين: دول المحور (ألمانيا والنمسا والدولة العثمانية) ودول التحالف (روسيا وإنجلترا وفرنسا وإيطاليا، إلخ).
كانت الجيوش العثمانية خاضت معارك عديدة على أكثر من جهة مع دول التحالف في كل من العراق وفلسطين وسوريا وسيناء والحجاز ومضيق الدردنيل.
ولأن الدولة العثمانية انضمت إلى الحلف متأخرةً بعض الشيء، لم تكن على أهبة الاستعداد، فخسرت نحو 90 ألف جندي على الجبهة الروسية فقط، لكنها قررت استعادة قوتها والتصدي للجيش الإنجليزي القابع على ضفاف دجلة في مدينة الكوت، فكان لها الانتصار المدوي.
الجنرالات:
نور الدين باشا
القائد العثماني نور الدين باشا (1932-1973) (1873ـ1932)، أحد أهم قادة الجيش، وكان يُدعى "الضابط الملتحي"، لأنه الوحيد الذي كان ملتحياً في صفوف ضباط التحرير التركي خلال حرب الاستقلال.
عُرف عنه كرهه لليونانيين بعد أن حرقوا كل المناطق التي انسحبوا منها خلال حرب الاستقلال التركية، ورفضه أي شكل من أشكال التفاوض معهم.
كان من أنصار مصطفى كمال أتاتورك، حيث دافع عنهُ هذا الأخير عند محاولة محاكمته من قبل الجمعية الوطنية الكبرى عدة مرات.
تشارلز تاونسند
السير تشارلز فير فيريرز تاونسند (1861-1924)، قائد الفرقة السادسة (بونا) في الجيش الهندي من أبريل/نيسان 1915 حتى استسلامها خلال حصار كوت العمارة في أبريل/نيسان 1916.
خريج الكلية العسكرية الملكية ساندهيرست، وكان يخدم في الهند قبل أن يتم تعيينه بالعراق.
بداية المعركة
تبدأ أحداث هذه معركة كوت العمارة في نوفمبر/تشرين الثاني 1915، عندما أطلقت إنجلترا حملةً للسيطرة على أراضي العراق التابعة للدولة العثمانيَّة وقتها.
قررت تطويق الجيش العثماني المتمركز في وسط العراق، واستطاعت بقيادة الجنرال تاونسند احتلالَ مدينة البصرة.
وبعد أن سيطرت عليها زحفت إلى بغداد، وفي طريقها حصلت المواجهات التاريخية مع نور الدين باشا.
بعدما خسرت القوات البريطانية نحو ثلث جنودها، انحسرت وانسحبت إلى مدينة الكوت في 7 ديسمبر/كانون اﻷول 1915، وهناك ضرب عليها القائد نور الدين حصاراً.
أرسل نور الدين بدايةً رسالةً إلى تاونسند يدعوه فيها إلى الاستسلام، فلم يستجب.
وهنا بدأ القصف المدفعي على مدينة الكوت التي لا تتجاوز مساحتها 10 كم مربع، حيث كان يتمركز أكثر من 13 ألف جندي.
عندها أمر القائد الإنجليزي بهدم بعض البيوت لفتح طرقٍ تكفي لعبور عربات النقل، كما أنَّه حوَّل سوق البلدة إلى مستشفى ونَقَل إليه مئات المرضى والجرحى.
الحصار…
استمر الحصار 4 أشهر ونصف الشهر، فنفدت المؤن وشرع الجنود يأكلون الكلاب والقطط.
حاول الجيش البريطاني تزويد القوات بالمؤن أكثر من مرة من خلال الطيران الحربي، لكن المؤن كانت تسقط في نهر دجلة فيصادرها العثمانيون أو تغرق.
وتشير الموسوعة البريطانية إلى أن القوات البريطانية حاولت رشوة القائد العثماني مقابل منحه 2 مليون جنيه إسترليني وبعض المدافع، لكن نور الدين باشا أبى واستمر الحصار إلى أن تم الاستسلام.
كان لورانس العرب جزءاً من الضباط الذين أُرسلوا للتفاوض مع الأتراك.
وبلغ عدد القوات العثمانية آنذاك نحو 11 ألف جندي، وكانت بعض العشائر العراقية في المنطقة تساعدها.
محاولات فاشلة
حاول الإنجليز أكثر من مرة، فك الحصار بإرسال قوات، منها مثلاً الهجوم البري الذي شنه الجنرال أيلمر في 6 يناير/كانون الثاني 1916، إلا أنهم اضطروا إلى التراجع بعدما فقدوا 4 آلاف جندي.
لكن لاحقاً تم استبدال نور الدين باشا بالعقيد خليل بك، بعدما عيّن الجنرال الألماني فيلدمارشال كولمار فرايهر فون در غولتس نور الدين بك قائداً للفيلق التاسع والقائد المؤقت للجيش الثالث، ليستكمل خليل بك الحاصر حتى نهايته.
الاستسلام
في 29 أبريل/نيسان 1916، وبعد 147 يوماً على الحصار، رفع تاونسند الراية البيضاء معلناً استسلامه من دون قيد أو شرط بعدما أنهكه الحصار جسدياً ونفسياً، وانهارت قواته من المجاعة وانتشرت بينهم الأمراض.
وبعد استسلامه الذي وصفه مؤرخون بريطانيون بأنه "أكبر استسلام للقوات البريطانية منذ استسلام اللورد كورنواليس في يوركتاون في عام 1781″، تم أَسره أولاً فيما يُعرف حالياً بمدين هالكي في تركيا، ثم في جزيرة الأمراء بالقرب من إسطنبول لبقية الحرب، ليعيش حياة راغدة.
كما أسرت القوات العثمانية 5 جنرالات و481 ضابطاً و13100 جندي.
وكتب خليل باشا في مذكراته عن هذا الانتصار في معركة كوت العمارة قائلاً: "إن التاريخ سيواجه صعوبة في إيجاد كلمات لتسجيل هذا الحدث".
تاونسند ينتقد سياسة حكومته في الشرق الأوسط
في الأسر، تقرَّب تاونسند من وزير الحرب العثماني إسماعيل أنور باشا (1881-1922)، وذهب إلى حد الدفاع عن أنور ومعاملة الجيش العثماني للبريطانيين وأسرى الحرب الهنود.
ولم يكتفِ بذلك، بل انتقد في الوقت نفسه معاملة الجيش البريطاني لأسرى الحرب العثمانيين في مصر.
عاد تاونسند إلى بريطانيا في العام 1918، ثم استقال من الجيش رغم أن الصحف البريطانية كانت تصفه بـ"بطل الكوت".
تم انتخابه عضواً في البرلمان، ولكن بعدما ظهرت إلى العلن حقيقة خسارته في معركة كوت العمارة، تعرضت سمعته لضربة قاسية.
كان ينتقد سياسة الحكومة البريطانية في الشرق الأوسط، مصرحاً في مجلس العموم بأن معاهدة سيفر كانت "خطأً في الحسابات السياسية من شأنه أن يترك المنطقة غير مستقرة لعقود".
ومعاهدة سيفر هي المعاهدة التي شهدت تفكك الدولة العثمانية وسيطرة قوات التحالف على المناطق غير الناطقة باللغة التركية وبعض الأراضي التركية، والتي ما زلنا نعيش تبعاتها حتى اليوم.