صورة بألف كلمة لـ"العبد غوردون"، الذي لا يتمتع بشهرة على الإطلاق، لكنَّه ترك بصمته في التاريخ الأمريكي حين فتحت صورته أعين الملايين على أهوال العبودية.
صورة نُشرت عام 1863 لعبدٍ يدعى غوردون، هرب من سيده في ميسيسيبي بعدما فرك نفسه بالبصل؛ كي لا تشم الكلاب البوليسية رائحته!
على ظهره جروح عِرق بأكمله وندوب لا تزول في تاريخ دولة كادت تنقسم في سبيل تحرير العبيد.
زائر غريب بثياب ممزقة
ووفق ما نشره موقع All That's Interesting، في مطلع ربيع عام 1863، كانت الحرب الأهلية الأمريكية على أشُدّها، وكانت وحدات "جيش الاتحاد" قد وجَّهت ضربات عميقة داخل أراضي "الكونفدرالية" (ولايات تدعم الرق وتسعى للانفصال)؛ وهو ما أدَّى إلى شطر الولايات المتمردة.
ثُمَّ وفي أحد الأيام، استضاف الفيلق التاسع عشر التابع للحكومة الاتحادية واحداً من أبرز وأكثر الشخصيات في عصرها غموضاً: العبد غوردون.
في الجهة المقابلة لمَرابط خيول الفيلق التاسع عشر التابع لجيش الاتحاد بولاية لويزيانا، ظهر رجل مرهق، حافي القدمين، يرتدي ملابس ممزقة، يسير بخطى متعثرة.
الهروب الجريء لـ"العبد غوردون"
كان هذا الرجل يُعرَف فقط باسم "غوردون"، أو "بيتر المجلود"، وهو عبد فرَّ من مالكَيه، جون وبريدجيت ليونز، اللذين كانا يستعبدان قرابة 40 إنساناً آخر.
أبلغ غوردون جنود الاتحاد أنَّه فرَّ من المزرعة بعدما تعرَّض لجلدٍ شديد للغاية لدرجة أنَّه ظلَّ طريح الفراش شهرين.
وبمجرد تعافيه، عزم غوردون على التوجه إلى خطوط جيش الاتحاد ونيل فرصة الحرية التي يوفرها.
مشياً على الأقدام، سافر غوردون عبر التضاريس الموحلة لريف لويزيانا، وكانت لديه الفطنة ليفرك نفسه بالبصل الذي عبَّأ به جيوبه، حتى يُضيِّع الكلاب البوليسية التي استُخدِمَت لاقتفاء أثره.
وبعد مرور نحو 10 أيام وقطع قرابة 129 كيلومتراً تقريباً، كان غوردون قد حقق ما لم يستطعه كثيرون غيره من المُستعبَدين: الوصول إلى برِّ الأمان.
كيف تركت صورة غوردون بصمتها في التاريخ؟
بحسب مقال يعود إلى ديسمبر/كانون الأول 1863 بصحيفة New York Daily Tribune، قال غوردون لقوات الاتحاد في باتون روج: "جَلَدني مراقب العمال، ولم يكن سيدي حاضراً. لا أتذكر عملية الجَلد، وقد لازمتُ الفراش شهرين أعاني من الالتهابات الناتجة عن الجَلد والمحلول الملحي الذي وضعه المراقب على ظهري. وبمجرد أن بدأ إدراكي بحواسي يعود، قالوا إنَّني صرتُ مجنوناً نوعاً ما؛ فقد حاولتُ إطلاق النار على الجميع".
ولم يكن غوردون من النوع الذي يقف مكتوف الأيدي حين تدور رحى المعركة من أجل الحرية، لذا التحق بصفوف جيش الاتحاد حين كان في لويزيانا بمجرد أن أصبح قادراً على ذلك.
في غضون هذا، جذب نشاط "الاتحاد" اهتمام اثنين من المصوِّرين الفوتوغرافيين: وليام ماكفرسون، وشريكه السيد أوليفر.
كان هذان الرجلان مسؤولَين عن إنتاج بطاقات الزيارة، التي كانت تُمثِّل صوراً صغيرة رخيصة تُطبَع بكميات كبيرة ويروج تبادلها بين السكان الذين كانوا في بداية تأمل عجائب التصوير الفوتوغرافي.
وحين سمع ماكفرسون وأوليفر بقصة غوردون المذهلة، أدركا أنَّ عليهما التقاط صورته. فالتقطا في البداية صورة لغوردون وهو يجلس بوقار وجدية، على الرغم من ملابسه الرثّة وقدميه الحافيتين، مُحدِّقاً بثبات في الكاميرا.
ولخَّصت الصورة الثانية الوجه اللاإنساني للعبودية.
إذ خلع غوردون قميصه وجلس مُوجِّهاً ظهره للكاميرا، فظهرت شبكة من الندبات البارزة المتقاطعة. مثَّلت هذه الصورة دليلاً صادماً على مؤسسة وحشية.
إذ نقلت الصورة فجاعة أكثر مما قد تنقلها الكلمات. كانت هذه تذكرة قوية بأنَّ حرب إنهاء العبودية كانت ضرورية.
معركة غوردون من أجل الحرية
ضربت الصورة التي التقطها ماكفرسون وأوليفر لوجه غوردون الهادئ اللاخجول على وترٍ حساس لدى الجمهور الأمريكي.
نُشِرَت الصورة لأول مرة في عدد يوليو/تموز 1863 من مجلة Harper's Weekly، وحمل التوزيع واسع النطاق للمجلة هذا الدليل المرئي على أهوال العبودية إلى المنازل والمكاتب في مختلف أرجاء الولايات الشمالية.
لقد أضفت صورة غوردون وقصته الطابع الإنساني على العبيد، وأظهرت للأمريكيين ذوي البشرة البيضاء أنَّ هؤلاء بشر وليسوا ممتلكات.
وبمجرد أن أصدرت وزارة الحرب الأمر العام رقم 143، الذي سمح للعبيد المُحرَّرين بالالتحاق بصفوف قوات الاتحاد، وقَّع غوردون باسمه على القوائم العسكرية لفوج المشاة الثاني في لويزيانا.
كان غوردون واحداً من بين قرابة 25 ألف مُحرَّر بولاية لويزيانا انضموا إلى المعركة ضد العبودية.
وبحلول مايو/أيار 1863، كان غوردون قد أصبح تجسيداً حقيقياً لصورة المواطن-الجندي الاتحادي المُكرَّس لتحرير الأمريكيين السود.
ووفقاً لأحد رقباء "الفيلق الإفريقي"، وهو المصطلح الذي استُخدِم للإشارة إلى وحدات السود بجيش الاتحاد، قاتل غوردون بقوة في معركة "حصار بورت هدسون" في لويزيانا.
وكان غوردون واحداً من بين نحو 180 ألف أمريكي إفريقي شاركوا في القتال خلال بعض أكثر المعارك دموية بأواخر الحرب الأهلية.
فعلى مدى 200 عام، كان الأمريكيون السود يُعامَلون باعتبارهم مقتنيات خاصة لبشر آخرين.
وعكس أشكال العبودية الأخرى التي كانت للعبيد فيها فرصة الحصول على حريتهم، لم يكن بإمكان أولئك المُستعبدين في الجنوب الأمريكي أن يأملوا أبداً أن يصبحوا أحراراً بحق.
ومن ثم شعروا بأنَّه من واجبهم الالتحاق بمعركة إنهاء هذه الممارسة اللاإنسانية.
الإرث الحي لألم رجل واحد
قاتل غوردون وعشرات الآلاف غيره من الرجال الذين انضموا إلى أفواج القوات الأمريكية من ذوي البشرة الملونة، بشجاعة.
قاتلوا من أجل سحق مؤسسة العبودية فيما وراء خطوط الدفاع التابعة للكونفدرالية.
ولسوء الحظ، لا يُعرَف الكثير عن غوردون في فترة ما قبل أو بعد الحرب. فحين نُشِرَت صورته في يوليو/تموز 1863، كان قد أصبح بالفعل جندياً منذ بضعة أسابيع، ويُظَن أنَّه ظلَّ جندياً طوال فترة الحرب.
ويتمثل واحد من العوائق التي كثيراً ما تعترض مؤرخي تلك الفترة، في صعوبة العثور على معلومات موثوقة عن السير الذاتية للعبيد؛ لأنَّ مُلّاك العبيد لم يكونوا مطالَبين بالاحتفاظ بأكثر من الحد الأدنى من المعلومات المطلوبة للإحصاء السكاني فقط.
ومع أنَّه اختفى في طيَّات التاريخ، ترك "العبد غوردون" بصمة لا تُمحى من خلال صورة واحدة فقط.
إذ صارت الصورة التي لا تغيب عن الأذهان لآثار التعذيب على ظهره ووقاره الهادئ، واحدةً من الصور المُميِّزة للحرب الأهلية الأمريكية، وواحدةً من أعمق التذكيرات بمدى بشاعة العبودية.