بعد حصار طويل صمدت فيه مدينة كافا الساحلية في وجه المغول، فوجئ سكان المدينة بأجسام غريبة تلقى فوق رؤوسهم من وراء أسوار المدينة المنيعة، لم تكن هذه الأجسام حجارة أو نيراناً ملقاة من منجنيق الأعداء، بل كانت جثث الجنود المغول متعفنة التي فتك بها الطاعون، ويحكى -وفقاً لبعض المؤرخين- أن تلك الحادثة كانت الاستخدام الأول للأسلحة البيولوجية في التاريخ، كما كانت السبب في انتقال "الموت الأسود" إلى أوروبا وفتكه بما يزيد على نصف سكان القارة.
إليكم قصة حصار مدينة كافا الذي كان سبباً في انتشار الطاعون في أوروبا في القرن الرابع عشر، كما وردت في موقع War History Online.com الأمريكي.
قصة انتشار طاعون "الموت الأسود" في اوروبا
في شبه جزيرة القرم، على الساحل الشمالي للبحر الأسود، تقع مدينة كافا، التي تعرف اليوم باسم فيودوسيا، ويعتقد بعض المؤرخين أن الطاعون المعروف بـ"الموت الأسود" قد انتشر في كافة أنحاء أوروبا انطلاقاً من هذه المدينة الساحلية.
بعد الاستيلاء على شبه جزيرة القرم في ثلاثينيات القرن الثالث عشر، أصبحت مدينة كافا تحت سيطرة المغول، الذين سمحوا في أواخر القرن الثالث عشر لمجموعة من التجار من جمهورية جنوة بإقامة مستوطنة تجارية هناك.
وسرعان ما احتكرت مدينة كافا التجارة في منطقة البحر الأسود، فأصبحت واحداً من الموانئ الكبرى، التي تؤوي أحد أكبر أسواق العبيد في أوروبا.
استفاد المغول بشكل كبير من تجارة أبناء جنوة في هذه المدينة الصاخبة، إلا أن الاختلافات الدينية بين التجار الجنويين المسيحيين والمغول الذين اعتنقوا الإسلام منذ القرن الثاني عشر الميلادي، أدت إلى بعض النزاعات بين الطرفين وقد بلغت تلك النزاعات ذروتها في عام 1343 وتحديداً في مدينة تانا الواقعة على البحر الأسود.
حصار مدينة كافا
انتهى شجار حدث بين تجار جنوة المسيحيين والمسلمين المحليين في تانا، بمقتل رجل من المسلمين على يد واحد من التجار الجنويين.
وبعد هذه الحادثة، فر أبناء جنوة إلى مدينة كافا طلباً للحماية هناك، وبالفعل منح حكام المدينة الحماية للجنويين.
لكن لم يمضِ وقت طويل بعد هروبهم، حتى جاء المغول لمطاردتهم، وطالبوا المدينة بتسليم الجناة، إلا أن حكام كافا رفضوا تسليم التجار للمغول.
وكان هذا الرفض الشرارة التي أشعلت غضب زعيم المغول آنذاك جاني بيج، وفقاً لبعض المصادر، وعلى أثره أعطى أمراً بالهجوم على المدينة وحصارها، فيما تذكر مصادر أخرى أن زعيم المغول كان يرغب بالتوسع نحو أوروبا، وقد كانت مدينة كافا بوابته إلى هناك.
وبغض النظر عن دوافع جاني بيج الحقيقية فقد تم حصار المدينة في عام 1343.
لم تكن المدينة بالوهن الذي توقعه المغول، ففي حين حاصر المغول كافا من البر، كان للمدينة منفذ بحري مكنها من الحصول على الإمدادات والتعزيزات من إيطاليا، وبالتالي لم تتأثر كثيراً بحصار المغول.
في المقابل خسر المغول 15 ألف جندي خلال هذا الحصار الذي انتهى بانسحاب المغول، لكن جاني بيج الذي عاد بجيشه إلى الوطن لم يكن راضياً بالنتيجة.
المغول يهاجمون بالموت الأسود
وفي عام 1345، عاد جاني بيج ثانية لحصار كافا، لكن حصل ما لم يكن بالحسبان، إذ ضرب الطاعون جنود المغول في تلك الفترة وراحوا يتساقطون الواحد تلو الآخر.
كان الموت الأسود طاعوناً اجتاح آسيا الوسطى منذ عام 1331، وقيل إنَّ سببه بكتيريا اليرسينيا الطاعونية الموجودة في البراغيث التي تحملها القوارض.
وجاء هذا الطاعون عبر طريق الحرير، حيث هاجرت القوارض من الأراضي الممزقة بالمجاعات في آسيا، حتى وصلت لشبه جزيرة القرم عندما كان الحصار مستمراً.
بدأت الانتفاخات بالظهور في أجساد الجنود الذين عانوا من الحمى الشديدة والعلامات السوداء على وجوههم قبل الموت.
وأدى انتشار الوباء في صفوف المغول لإحباط شديد في الجيش، وفقد جزء كبير منهم الاهتمام بالحصار.
وبحسب بعض المؤرخين، لم يرغب المغول بالتراجع قبل أن تشرب كافا من كأس الموت الأسود كذلك.
فوضع المغول جثث موتاهم على المنجنيق وألقوها فوق جدران المدينة، التي فوجئ سكانها بتساقط الجثث المتعفنة عليهم من السماء ناشرة الروائح الفاسدة في كل اتجاه.
قام سكان المدينة بإلقاء الجثث في البحر بأسرع وقت ممكن، وانتهى الحصار في عام 1347، بعد مفاوضات بين المغول وحكام كافا، لكن في ذلك الحين كان الطاعون قد انتشر في المدينة بالفعل.
انتهى الحصار في عام 1347، بعد مفاوضات بين المغول والمدينة، ولكن بحلول ذلك الوقت كان الطاعون بدأ بالانتشار في كافا ومنها إلى كافة أنحاء أوروبا.
بعض المؤرخين ينفون فكرة استخدام المغول للجثث، ويرجحون أن المرض انتقل إلى المدينة عن طريق القوارض التي كانت تتجول بين المعسكرين.
وفيما يخص فكرة انتقال الموت الأسود إلى أوروبا من مدينة كافا فلا يمكن التأكيد على دقة أو عدم دقة هذه الفرضية، لأنه من الواضح أن العديد من العوامل الأخرى قد ساهمت في انتشار الوباء مثل الحروب والمجاعات والطقس السيئ.
الموت الأسود من كافا إلى أوروبا
لا نعلم فعلياً إن كان انتقل الطاعون عن طريق جثث المغول الملقاة بالمنجنيق أم عن طريق القوارض التي تجولت بين المعسكرين، لكن نعلم أن الوباء فتك بحياة الكثيرين من أبناء المدينة، أما أولئك الذين بقوا على قيد الحياة فقد فروا في سفن باتجاه أوروبا حاملين معهم الموت الأسود.
ودون علم منهم نشر هؤلاء المرض في إيطاليا والقسطنطينية ومن هناك نقل الفارّون الباقون على قيد الحياة الوباء إلى كافة أوروبا.
وفي النهاية، كان الموت الأسود مسؤولاً عن وفاة 75 إلى 200 مليون حالة وفاة في أوراسيا.
إذ قتل ما بين 30 و60٪ من سكان أوروبا، ونحو نصف سكان الصين، ليكون واحداً من أكثر الأوبئة فتكاً في التاريخ.