"تتميز رواية الديوان الإسبرطي بجودة أسلوبية عالية وتعددية صوتية تتيح للقارئ أن يتمعن في تاريخ احتلال الجزائر روائياً، ومن خلاله تاريخ صراعات منطقة المتوسط كاملة، كل ذلك برؤى متقاطعة ومصالح متباينة تجسدها الشخصيات الروائية، هذه الرواية بنظامها السردي التاريخي العميق لا تسكن الماضي، بل تجعل القارئ يطل على الراهن القائم ويسائله".
بهذه الكلمات أعلن رئيس لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية محسن الموسوي، عن فوز رواية "ديوان الإسبرطي"، للكاتب الجزائري عبدالوهاب عيساوي، بجائزة البوكر العربية في دورتها الثالثة عشرة لعام 2020، والتي تبلغ قيمتها 50 ألف دولار أمريكي، بالإضافة إلى ترجمة الرواية للغة الإنجليزية، فماهي قصة ديوان الإسبرطي؟
الديوان الإسبرطي: تاريخ الجزائر عبر خمسة أصوات مختلفة
"اثنا عشر عاماً انقضت على موت نابليون، وثلاث سنوات بعد سقوط الجزائر، وما زالت هذه الكلمات تضج في رأسي، صديقي القديم لم يشأ أن يغيرها في كل خطاب، أجوب شوارع مرسيليا لأجد الناس تناسوا ضجيج السنوات الماضية.."
منذ كلماتها الأولى تجذبنا الرواية نحن القراء إلى غواية التاريخ وسطوته، وصفحة تلو الصفحة ينكشف أمامنا تاريخ الجزائر في الفترة الممتدة بين 1815 الذي شهد هزيمة نابليون بونابرت في معركة واترلو الشهيرة وعام 1833، حين انتهت اللجنة الإفريقية الفرنسية من أعمال التفتيش في الجزائر، وما تخلل تلك الفترة من الاحتلال الفرنسي للجزائر.
ورغم أن الرواية تتخذ من التاريخ فضاء لها فإنها لا تعتمد على السرد المتسلسل للأحداث كما هو معروف في الروايات التاريخية الكلاسيكية، وعوضاً عن ذلك تراهن على تقنية السرد المتناوب من خلال خمس شخصيات رئيسية وهم "ديبون، كافيار، ابن ميار، حمة السلاوي، ودوجة".
فمع بداية كل فصل يحكي لنا الأبطال الأحداث التي مروا بها، ولهذا تميل الرواية إلى طابع اليوميات التي ترصد التفاصيل الدقيقة لطبيعة الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في تلك الفترة، من خلال ثنائية الضعف والقوة، والاستعباد والتحرر، والأوهام والحقائق. فطوال الأحداث نرى كافيار يتهم ديبون بالضعف، ونرى ابن ميار يتهم السلاوي بالتمرد، في حين يراه الأخير واهماً وغير قادر على رؤية الحقائق الدامغة.
من هم الشخصيات الخمس للرواية
وظفت الرواية شخصيتين فرنسيتين وهما؛ ديبون وكافيار، وثلاث شخصيات جزائرية وهم؛ ابن ميار وحمة السلاوي ودوجة، ديبون هو كاتب صحفي ومراسل لجريدة "لوسيمافور دي مرساس"، والذي يُنتدب لمرافقة الحملة الفرنسية على الجزائر، ولسبب ما يتعلق بهذا البلد ولديه قناعة برسالة الحضارة الأوروبية في إنارة الطريق للدول المتأخرة حضارياً، ولكنه أثناء تغطية الحملة يغير الكثير من أرائه، ويلقي الضوء على تجاوزات الفرنسيين في الجزائر.
كافيار؛ الجندي المهزوم في معركة واترلو والقائد العسكري الذي يؤمن بحلم السيطرة الفرنسية وأملاً في تحقيق حلمه كان الجاسوس والمهندس الذي رسم خرائط تضاريس الجزائر لحملة الاحتلال الفرنسي.
أما الشخصيات الجزائرية فهي ابن ميار؛ التاجر وكاتب الديوان الأميري الذي يؤمن بضرورة التعايش السلمي ويرى أن الخلافات لا تُحل بالثورة والتمرد، ولكن بالسياسة والمفاوضات، كان ابن ميار شخصاً حالماً تهشم بسهولة أمام صخرة الواقع الصلبة، على عكسه تماماً كان صديقه صانع العرائس القبيحة حمة السلاوي الذي كان ثائراً ومتمرداً ويرى أن الحقوق لا تُسترد إلا بالقوة.
ولأن السلاوي كان ثائراً فدائماً ما يكون هارباً في انتظاره دوماً نرى دوجة، الصوت النسائي الوحيد في الرواية، والتي تجسد الطبقة المهمشة التي هرستها الحياة، كانت دوجة تحب السلاوي وتنتظر قدومه، ليس لأنه أنقذها من فحسب، ولكن كانت ترى في روحه نوراً، بصحبتها كانت تجلس عرائسه القبيحة التي يتعمد السلاوي تشويهها تماماً كما يراها في الواقع؛ وجوه خانعة عاشت فجيعة الاستعمار المرير.
هؤلاء الشخصيات الست يعيشون نفس الأحداث من منظورهم الشخصي، وهو ما يجعل السرد لا يتقدم، ولكن يدور حول محوره بشكل دوراني؛ يبدأ ديبون بالحديث، ثم كافيار، ويليه ابن ميار والسلاوي ودوجة، ثم يأتي الفصل التالي بنفس ترتيب الشخصيات، وهذه الرواية ليست رواية شخوص، فنحن مع مرور الأحداث نجد أننا لا نهتم بمصير الشخصيات ولا بتطورها وتغيّراتها، فكل ما نجد أنفسنا نركز عليه هو إرهاصات ما قبل الحملة الفرنسية، وإبحار الأسطول الفرنسي نحو الجزائر، وإمضاء معاهدة الاستسلام وما تلاها من تسليم الجزائر للفرنسيين.
الديوان الإسبرطي: وجبة تاريخية دسمة للغاية
"نظل نميل إلى الأشكال المنحنية، كالأقواس والدوائر، بينما ترتفع أبنيتهم مثل مربعات ومثلثات، لا يمكن أن يصبح الهلال صليباً. قرون من الحروب والموتى، وما تحول هلال إلى صليب مثلما لم يتحول صليب إلى هلال".
قبل أن تحتل فرنسا الجزائر، بعثت مخبريها من مهندسين وأطباء وقساوسة، الذين تدثروا بعباءة الدين والرحمة، واعدين الناس بتغيير حياتهم إلى الأفضل، وتخليصهم من الحكم العثماني الغاشم، ولكن ما إن قدموا إلى الجزائر حتى هدموا البيوت واستولوا على الأرض، وكما نجحت الرواية في تقديم وجبة تاريخية دسمة فإنها نجحت أيضاً في إثارة الكثير من الأسئلة في عقل القراء، ونبشت في العديد من القضايا مثل القرصنة في البحر المتوسط ودور اليهود في الجزائر، وقضية الاتجار بعظام الموتى من أجل تبييض السكر، ودور المستشرقين في الحملة الفرنسية، وموقف المثقفين الفرنسيين والصحفيين والشارع الفرنسي من استعمار الجزائر.
غلاف الرواية وعنوانها
يؤرخ غلاف الرواية المرسوم يديوياً لواقعة تاريخية شهيرة، وهي واقعة "المروحة"، ففي أول أيام عيد الفطر المبارك والذي وافق 29 أبريل/نيسان من عام 1827، زار القنصل الفرنسي بيار دوفال قصر الباشا العثماني الداي حسين، وخلال جلستهم دار الحديث عن الديون المستحقة للجزائر لدى فرنسا، ولكن القنصل الفرنسي ردّ بشكل غير لائق على الداي حسين، فأمره بالخروج، ولكنه لم يخرج، فلوح له الداي بالمروحة التي كانت بيده، وقالت بعض الروايات إنه ضربه بها على وجهه، فكانت هذه الحادثة هي ذريعة احتلال فرنسا للجزائر.
أما اسم الرواية فقد اقتسبه الكاتب بتقنية "الرواية داخل الرواية" من الديوان الإسبرطي، الذي كان كافيار يقرأه أثناء التحضير للحملة، إذ كان يرى أن الجزائر تشبه إسبرطة اليونانية القديمة، التي كانت ثكنة عسكرية ضخمة، وإذا أرادت فرنسا احتلال الجزائر فعليها سد جميع ثغرات المدينة مثلما كان يحدث في إسبرطة، ومن خلال الديوان الذي كان كافيار يقرأه كان يرى كافة تفاصيل العمليات العسكرية في إسبرطة من مؤن وأسلحة وذخائر، وعليه كان يفكر بطريقة مشابهة في تجهيزات حملته، وهنا كان يردد كافيار "للتاريخ سطوة في إعادة الأحداث، لم يكن إلا عجلة تدور وليس لنا إلا السير فيها".
عبدالوهاب عيساوي
رغم أنه يعمل مهندس إلكتروميكانيك فإنه اقتحم عالم الرواية بكل قوة، وأثبت موهبة فذة، فرغم أنه ما زال في الخامسة والثلاثين من عمره فإنه حصد الكثير من الجوائز؛ ففي عام 2013 فاز بجائزة الشارقة في الإبداع عن مجموعته القصصية "حقول الصفصاف"، وفي عام 2015 حصد جائزة آسيا جبار للرواية عن رواية "سييرا دي مويرتي"، هذا بالإضافة لتتويجه بجائزة كتارا للرواية غير المنشورة عام 2017، برواية "سفر أعمال المنسيين"، أما عن روايته "الدوائر والأبواب" فقد مكنته من الفور بجائزة سعاد الصباح للرواية عام 2017.