تختلف علاقة البابا بملوك أوروبا في القرون الوسطى عن علاقة الدولة الإسلامية مع رجال الدين في الفترة نفسها، والدليل على ذلك أن ملوك أوروبا شنوا 9 حملات صليبية لاحتلال القدس بدعوةٍ من البابا. لكنّ الكلمة العليا للبابا تراجعت مع تعاظم نفوذ السلطة السياسية، والأحداث التي عنونت حكم الملك الإنجليزي هنري الثاني كانت أكبر دليل على شراسة المنافسة بين لكنيسة والسلطة.
في هذا التقرير نروي قصّة الملك الإنجليزي الذي هدد البابا باعتناق الإسلام، وكان هذا عام 1168 في خضمّ الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، ويمكننا أن نترك لخيالنا العنان لو اعتنق ملكٌ بريطانيٌّ الإسلام وأصبحت بريطانيا التي نعرفها مسلمة!
الملك هو هنري الثاني، والبابا هو ألكسندر الثالث، أما سر التهديد فيكمن في شخصية هذا الملك المتأثرة بالإسلام من جهة ورغبته في الانتقام من أعز أصدقائه الذي انقلب عليه بمساعدة البابا.
بحسب ما نشره موقع BBC History، لم يكن من غير المألوف أن يُصدر هنري تهديدات؛ بل إن هنري لم يميز بين المتلقين لتهديداته، من بابا روما وصولاً إلى الناخبين المتواضعين، الذين أمرهم ذات مرة بـ"إجراء انتخابات حرة" يُمنع انتخاب أي شخص فيها ما عدا مرشحه!
بدايةً، من هو الملك هنري الثاني؟
وُلد هنري عام 1133، وتسلَّم حكم إنجلترا من عام 1154 (بعمر 21 عاماً) حتى وفاته عام 1189 (56 عاماً).
ظهر حبه للسلطة وهو ما زال في سنوات مراهقته بتشجيع من والدته، ثم تزوج إليانور آكيتان زوجة لويس السابع ملك فرنسا سابقاً، حيث كان عمره في ذلك الوقت 19 عاماً، وأنجبا عدداً من الأطفال منهم هنري وريتشارد وجفري.
لم يكن يعلم أنه سيورّث عطشه إلى الحكم لأولاده الذين تصارعوا على السلطة فتمردوا على أبيهم، وجاءت نهايته على أيديهم.
كان الملك هنري الثاني أحد أقوى الرجال في العالم، وامتد نفوذه من الحدود الأسكتلندية إلى سواحل البحر المتوسط، حيث حكم أعمامه مملكة بيت المقدس، التي حررها لاحقاً صلاح الدين الأيوبي في عام 1187.
هنري تعلَّم العربية واطَّلع على سيرة الرسول
كان هنري على دراية بالدين الإسلامي، فقد درس أعمال بيتروس ألفونسي، وهو طبيب جده هنري الأول، الذي كتب أقدم رواية عن حياة النبي محمد، وكذلك بطرس الجليل، الذي أمر بأول ترجمة للقرآن إلى اللاتينية.
وعلى الرغم من أن بطرس رأى الإسلام بدعة، فإنه وصفه بـ"أعظم بدعة على الإطلاق"!
إلى جانب الإسلام، طوَّر هنري أيضاً إعجاباً بتعلُّم اللغة العربية في سن مبكرة. وقد تلقى تعليماً متميزاً على يد العلماء المطلعين على المعرفة "الجديدة" التي كانت تتفجر من الأندلس والشرق الأوسط بفضل اهتمام الملوك والخلفاء العرب بعلوم الرياضيات واللغة والفلسفة والفلك.
ولم تشهد أوروبا الغربية قط فترة مثيرة من الناحية الفكرية مثل تلك التي في القرن الـ12 والتي أطلق عليها لاحقاً نهضة القرن الـ12.
استمدت النهضة معارفها من خلال الاتصال بالعالم العربي والاطلاع على تقاليده الفكرية الغنية في علم الفلك والطب والموسيقى والهندسة المعمارية والرياضيات.
وتتلمذ على يد مستعرب ولغوي شهير
كان والدا هنري قد استأجرا له أفضل المدرسين في أوروبا. وكان من بينهم اللغوي والعالم الشهير أديلارد الباثي، الذي كرس نفسه لـ"دراسات العرب".
اشتهر أديلارد بترجماته إلى اللاتينية من أطروحات عربية عن علوم الفلك، وقدم الابتكارات العربية في مجال الرياضيات إلى إنجلترا وفرنسا. وقد أهدى أديالارد كتابه De opera astrolapsus -وهو عمله حول ابتكار الأسطرلاب العربي- لهنري.
رحب بالعلماء العرب واستعان بالفنون الإسلامية
كما رحب هنري في بلاطه الملكي بالعلماء العرب، وكان يعرف ما يكفي من اللغة العربية ليطلب نصوصاً محددة من دبلوماسيين يسافرون إلى صقلية وبيت المقدس.
وقد أعجب هنري بالفنون الإسلامية، لدرجة أنه عندما بنى قصراً لعشيقته روزاموند كليفورد، زيَّنه بالزخارف الزخارف العربية.
الملك الإنجليزي الذي هدد البابا باعتناق الإسلام
يمكن العثور على الجواب في رسالة هنري إلى البابا ألكسندر والتي نصت على ما يلي:
"في أقرب وقت، سأتحمل مساوئ نور الدين [سلطان حلب] وأصبح كافراً، لكني لن أتكبد عناء تحمُّل توماس [بيكيت] على رأس كاتدرائية كانتربري أكثر من ذلك".
كان يقصد من هذه الرسالة حاكم حلب آنذاك نور الدين زنكي، الذي ورث عن أبيه عماد الدين مهمة التصدي للحملات الصليبية ومهَّد الطريق لصلاح الدين الأيوبي لتحرير القدس، أما توماس بيكيت فهو صديقه المفضل الذي انقلب عليه لاحقاً.
انقلاب غير متوقع من الصديق
وكان هنري عيَّن صديقه توماس في منصب المستشار بعد وقت قصير من انضمامه إلى بلاطه، ثم عيَّنه رئيسَ الأساقفة ومستشاره الخاص، في محاولة للسيطرة على المؤسسة الدينية ببلاده.
لكن هدف هنري كان ضمان الخلافة بتتويج ابنه الأكبر دون أي صراعات على العرش في حال وفاته، بمباركة من رئيس الأساقفة.
بدلاً من ذلك، اكتشف هنري أنه وضع متعصباً دينياً على رأس الأسقفية، وسرعان ما انغمس الملك والأسقف في معركة السيادة بين الكنيسة والدولة.
خلاف على السلطة القضائية يشعل المنافسة
كان المصدر الرئيسي للخلاف يدور حول أي محكمة -محكمة الملك أم الكنيسة- يجب أن يحاكَم أمامها رجال الدين المتهمون بارتكاب الجرائم.
فاتهم هنري صديقه السابق توماس بازدراء السلطة الملكية؛ وهو ما دفع توماس للهرب إلى بلاط ملك فرنسا آنذاك، لويس السابع.
وكان لويس، وهو الزوج الأول لزوجة هنري، إليانور، مسروراً للغاية بخلقه المتاعب لهنري.
بدأ هنري يضغط على البابا من أجل الإطاحة بتوماس، فكانت الرسالة المثيرة للجدل.
رجل عملي يكنُّ احتراماً للإسلام ولكن..
أما ما يتعلق بما إذا كان هنري قد نفذ التهديد في أي وقت من الأوقات، فهو أمر غير مرجح.
إذ تشير الوثائق التاريخية إلى أنه كان رجلاً غير متدين أصلاً، لكنه لم يستطع أن ينكر أن "حقه الإلهي" في التربع على عرش إنجلترا انبثق من المسيحية.
ماذا لو نفذ تهديده فعلاً؟
كان تحوُّل هنري إلى الإسلام يتطلب التحول الجماعي لكل الشعوب المختلفة في الأراضي الواقعة تحت حكمه.
ولنتأمل
ذلك قليلاً: ماذا كان سيحل بالآلاف من رجال الدين؟ هل كانت العربية ستحل محل
اللاتينية كلغة مشتركة؟ هل كان هنري سيعتمد القوانين العربية؟ مع أي من الخلفاء
العرب كان سيقيم تحالفاته الجديدة؟ أخيراً كيف كان ذلك سيؤثر على مسار الحملات
الصليبية التي أرهقت العرب والمسلمين؟
انتقد المؤرخون البريطانيون هنري لافتقاره إلى التقوى، مدَّعين
أنه لم يجلس قط في كنيسة. ولم يكن تهديده بالتحول إلى الإسلام سوى دليل على مدى
ضآلة ما يعنيه الدين بالنسبة له.
ومن بين جميع الأسباب التي قد يكون هنري قد نشدها في الإسلام، فإن أحد أكثرها جاذبيةً هو بالتأكيد أنه، عكس المسيحية، لم يكن ليكون هناك بابا يمنعه من إقالة رئيس أساقفته الذي خرج عن طوعه!
ماذا حل بهنري وتوماس؟
بعد عامين من كتابة الرسالة، أي العام 1170، قُتل توماس على يد 4 فرسان، لم يحاسبهم هنري قط، لكن بابا روما أجبرهم على المشاركة في الحملات الصليبية لمدة 14 عاماً.
أما هنري فتوفي بعدما عزله أحد أبنائه (الذي سيصبح ريتشارد قلب الأسد)، ولكنه قبل مماته وللتكفير عما فعله بتوماس بعد اعتراف علني، تعهد لبابا روما بأن يموّل حملة صليبية جديدة.
أما الكنيسة الكاثوليكية فمنحت صفة القداسة لتوماس واعتبرته شهيداً.