ربما قد طالعت الصحف المصرية مؤخراً وقرأت خبراً مفاده أن هناك دعوى قضائية مصرية تطالب تركيا برد ملايين الجنيهات الذهبية لمصر، تعويضاً عن جزية ظلّت تدفعها مصر "بالخطاً" للدولة العثمانية.
ووسط تفاعلات متباينة بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، دعونا نفتح لكم الملف، ونجيب على بعض التساؤلات التي قد تثار حول جزية مصر للدولة العثمانية.
ما هي الجزية التي كانت تدفعها مصر للدولة العثمانية؟
بعدما دخلت قوات الدولة العثمانية مصر في عام 1517م، بقيادة السلطان سليم الأول وانتصاره على القائد والسلطان المملوكي طومان باي، وإعلانه مصر ولاية عثمانية، اعتبرت مصر جزءاً من الدولة العثمانية؛ وبذلك أصبحت ملزمة بدفع الجزية سنوياً مقابل حمايتها رسمياً.
وكان السلطان العثماني هو من يحدد جزية الولايات التابعة للدولة، ففي عام 1866 أصدر السلطان -عبدالعزيز الأول آنذاك- فرماناً بزيادة الجزية المطلوب من الخديوي إسماعيل دفعها؛ من 376.000 جنيه إلى 720.000 جنيه، في مقابل منحه لقب الخديوي بدلاً عن الوالي، وكانت تلك الأموال بمثابة دين يدفعه الحاكم، ولا يُسمح للحاكم السابق -المعتزل أو المعزول- مغادرة مصر حتى يسدده.
ما هي الدعوى القضائية المطالبة برد جزية مصر للدولة العثمانية؟
بحسب ما نشر موقع Egypt Today المصري باللغة الإنجليزية فقد حددت المحكمة الإدارية المصرية موعد 15 فبراير/شباط 2020، للنظر في دعوى قضائية تطالب تركيا برد أكثر من 23.1 مليون عملية ذهبية أُخِذَت من مصر "بطريقة غير مشروعة" ومنحت للدولة العثمانية.
كان قد رفع المحامي المصري حميدو جميل دعوى قضائية أمام المحكمة الإدارية -التي بدأت فعلياً في أغسطس/آب من العام 2018- طالب فيها الحكومة المصرية باتخاذ كافة الإجراءات القانونية دولياً لاستعادة هذه الأموال، التي دُفِعَت للدولة العثمانية بين 1915 و1955 خلافاً للقانون؛ نظراً لأنَّ الوصاية العثمانية على مصر انتهت رسمياً بعدما وضعت بريطانيا مصر تحت حمايتها في 1914.
وطالبت الدعوى أيضاً بمصادرة جميع الأملاك التركية في مصر، وكذلك تجميد الأصول التركية في البنوك المصرية، مشيرة إلى أنَّ وزارة الخارجية المصرية سبق وأن طالبت برد هذه العملات الذهبية.
إذاً.. إلى ماذا تستند الدعوى القضائية في "عدم مشروعية المبالغ المدفوعة"؟
بحسب ما نشرته الصحف في 2018 وقت بدء الشروع في الدعوى أن المحامي المصري قد استند في دعواه إلى مستندات "تثبت" أن مصر ظلت تدفع الجزية منذ عام 1914 -أي تاريخ انتهاء الولاية العثمانية على مصر رسمياً- وحتى عام 1955، وهي الأموال التي لم تسدد رسمياً ومباشرة إلى تركيا، ولكن بشكل آخر.
فما هو هذا الشكل؟
بحسب ما نشره الكاتب والصحفي المصري الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه "سنوات الغليان"، والذي كان مقرباً بشدة من النظام المصري الناصري بعد ثورة ضباط الجيش في يوليو 1952؛ فإنه عام 1955 اكتشف الرئيس المصري جمال عبدالناصر أن مصر لاتزال تسدد ديون "الخلافة العثمانية" بعد انتهائها رسمياً بـ40 عاماً.
فما هي الديون التي كانت تسددها مصر نيابة عن الدولة العثمانية؟
الديون هي سداد لمجموعة من القروض التي حصلت عليها الدولة العثمانية من المصارف الأوروبية -فرنسا وبريطانيا- بضمان الجزية المصرية التي تدفعها لها الخديوية المصرية، وهذه القروض كانت في أعوام 1854 و1855 و1871، وكانت الخديوية المصرية تودعها مباشرة إلى بنك إنجلترا دون المرور بالخزانة العثمانية، ولكن حينما أفلست الدولة العثمانية عام 1875 استمر الخديوي بسداد الجزية لحساب بنك إنجلترا في لندن.
ولكن لماذا استمرت مصر في دفع الديون؟
نصت معاهدة لوزان 1923 -التي استهدفت تسوية ميراث الدولة العثمانية- في مادتها الـ19 على أن أحكام الأراضي المنفصلة عن تركيا لن تنطبق على مصر، التي تنازلت تركيا عن جميع الحقوق والألقاب فيها اعتباراً من 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1914، وفق المادة 17.
لكن المادة 18 نصت على تحرير مصر من جميع الالتزامات المتعلقة بالدين العام العثماني ما عدا تلك المتعلقة بالقروض العثمانية المضمونة على الجزية المصرية، والتي تشمل قروض 1855 و1891 و1894، لتتحول المدفوعات السنوية التي تقدمها مصر لخدمة هذه القروض إلى جزء من خدمة الدين العام المصري.
إذا كان الدين يذهب لبريطانيا بغير حق.. لماذا رضخت مصر؟
بحسب وقائع المداولات المصرية البريطانية عام 1924 فقد ناقش رئيس وزراء مصر آنذاك سعد زغلول الحكومة البريطانية متمثلة في رئيس الوزراء البريطاني رئيس الحكومة رامزي ماكدونالد فيما يخص الدين العثماني، وأنه يجب ألا تستمر مصر في دفعه للخزينة البريطانية، ولكن وكيل وزارة الخارجية البريطانية آرثر بونسومبي اعتبر أن الحكومة البريطانية ترى أن هذه "ادعاءات" من قبل الحكومة المصرية، وهي غير مقبولة على الإطلاق، مشيراً إلى نص معاهدة لوزان التي تلزم مصر بالدفع.
ولكن هل استطاعت مصر الفرار من الخضوع للضغط البريطاني؟ الإجابة ببساطة هي لا. فبحسب ما قاله أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة برينستون روبرت تيجنور Robert L. Tignor في كتابه " المشروعات العامة والخاصة والتغير الاقتصادي في مصر" State, Private Enterprise and Economic Change in Egypt, 1918-1952:
إن موقف الحكومة المصرية كان أقوى قانونياً في مواجهة نظيرتها البريطانية وحملة الأسهم الأوروبيين، ولكن الضغط البريطاني كان أقوى، وأن قرض 1855 تحديداً، لم يحصل على موافقة مصر مطلقاً من الأساس. هذا غير أن الدولة العثمانية كانت قد أسست صندوقاً لإدارة الأزمة "Sinking Fund" لينهي أزمة الديون في 1900، وبالتالي فلا علاقة لمصر بدفع الديون العثمانية.
ولكن بنك روتشيلد -الذي تملكه عائلة آل روتشيلد- كان قد رفع دعوى قضائية ضد الحكومة المصرية أمام المحاكم المختلطة عام 1924، وأيد أغلبية القضاة البريطانيين حق حملة الأسهم في تلقي الفائدة من مصر. واستمر نظر الدعوى القضائية خمس سنوات، أودعت خلالها مصر الأموال المخصصة في حساب معلق لحين حل النزاع.
وبعد مفاوضات بين حكومتي البلدين توصل الطرفان إلى حل في 1929، إذ وافق رئيس الحكومة المصرية آنذاك محمد محمود على تسوية للنزاع تقضي بدفع 630 ألف جنيه إسترليني كدفعة أولى إلى مؤسسات روتشيلد المالية، على أن تدفع مصر لاحقاً مجموع 16 دفعة أخرى بقيمة 90 ألف جنيه إسترليني، ليصل الإجمالي إلى مليوني جنيه إسترليني.
وبعد أن انتهت الحكومة الملكية في مصر، وتحولت إلى جمهورية، ظلت بعض الأنظمة المعمول بها اقتصادياً تعمل بشكل آلي، وهنا كان إعلان هيكل غضبه وغضب عبدالناصر عند اكتشافه أن مصر لاتزال تسدد هذه الديون التي ورثتها من النظام السابق، الذي ورثها بدوره من نظام الخديوية.
عبدالناصر حاول من قبل رغم إدراكه استحالة الأمر
بحسب ما علّق الكاتب الصحفي اليمني ناصر يحي على الواقعة المذكورة في كتاب هيكل سنوات الغليان:
"كان من أولى اهتمامات عبدالناصر في تلك المرحلة إعادة النظر في جهاز الدولة الإداري كأحد وسائل إعادة ترتيب قواعد القوة والسلطة التي تركزت في يده. حينها اكتشف واقعة أصابته بالدهشة إذ قد تبين له أن مصر -التي انتهت علاقتها رسمياً بالخلافة العثمانية عام 1914 بإعلان الحماية البريطانية عليها- ظلت تدفع الجزية المقررة عليها لتركيا حتى عام 1955، وبالتحديد بلغ إجمالي ما تم دفعه بالجنيهات الذهبية 23.174.984 جنيهاً!
وكالعادة استيقظت البيروقراطية للتحقيق في الواقعة، وتأكدت وزارة الخارجية المصرية من أن مصر بالفعل ظلت تدفع الجزية لتركيا -في الحقيقة إلى بريطانيا عوضاً عن الدولة العثمانية المنتهية- طوال تلك السنين.
وعلى العادة البيروقراطية عندما تتحمس لحماس الزعيم، بشّرته الخارجية بأن مصر من حقها أن تطالب تركيا -الغريب أنه لم يطالب بريطانيا التي كانت على وشك الجلاء عن مصر-بإعادة تلك الأموال مع احتساب الفوائد عليها بواقع 5% وفق سعر الفائدة العالمي وقتها، وهو ما سيجعل المبلغ المطلوب رده إلى الخزينة المصرية يصل إلى سبعين مليون جنيه، أو ما يساوي ألف مليون دولار بقيمة النقود زمن صدور كتاب هيكل في عام 1988!
وعلى حد رواية الكتاب، فإن الرئيس عبدالناصر رغم اقتناعه بأن الأتراك لن يردوا أموال الجزية، فإنه وافق -ربما تماهياً مع بيروقراطية بلده- على ضرورة مطالبة تركيا بدفع أو إعادة مبلغ الجزية التي كانت مصر تدفعها لخزينة دولة لم تعد موجودة في الدنيا، وتقاسم أعداؤها أراضيها وممتلكاتها كما يفعل الأكلة على الموائد!"
على أرض الواقع اليوم.. هل يمكن أن تُرد هذه الأموال فعلاً؟
أما في هذا الشأن فيكفي أن نطالع ما قاله بعض أساتذة التاريخ المصريين، فبحسب ما نشرته إحدى أشهر صحف مصر "اليوم السابع" عام 2018 على لسان الدكتور محمد عفيفي، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة:
"إن مثل هذه الدعاوى ظهرت من قبل، فالبعض طالب برد تعويضات من المملكة البريطانية تعويضاً عن سنوات الاحتلال الإنجليزي لمصر، وآخرون يتحدثون عن سلفة قدمتها الحكومة المصرية لنظيرتها البريطانية إبان فترة الاحتلال والحرب العالمية الثانية فيما سمي بالقصيدة الإسترلينية، وأخيراً الدعوات التي تطالب برد الجزية التي دفعت للدولة العثمانية.
وأضاف عفيفي في تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع" أن الأمور فيما تخص ذلك لا تحكم هكذا، وينظمها القانون الدولي، مشيراً إلى أن العلاقات فيما يخص مصر وبريطانيا وتركيا، تمت فيها العديد من الاتفاقيات الدولية وتم حل أي أزمة، وليس من الطبيعي خروج دعوات تطالب برد أموال بعد عشرات السنين وكان المسؤولون حينها لا يفكرون.
وأوضح الدكتور محمد عفيفي أن مثل هذه الدعوات ليست قانونية ولا نستطيع تنفيذها، وأنها دائماً ما تظهر كنوع من الحس الوطني، وعادة يكون صاحبها ليس مؤرخاً أو عالماً بالتاريخ، متماً: التاريخ ليس له علاقة بما يظهر من دعوات.
وفي تصريح آخر في الموضوع نفسه جاء تعليق الدكتور أحمد زكريا الشلق أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس:
"هذه الدعوات ليس لها قيمة، خاصة أنها انتهت من زمن وكانت تحدث بالتراضي، موضحاً: "مكناش بنبقشش على السلطان العثماني، لكن أموال تدفع بالتراضي من كل الولايات التابعة للدولة مقابل الدفاع عنها".
وأضاف "الشلق" أن الدولة العثمانية احتلت مصر، وحولتها من دولة مستقلة ذات سيادة إلى ولاية تابعة لها، وكنا جزءاً منها وبالتالي سار علينا ما يسير على الولايات الأخرى، بدفع ما يسمى "الخراج" لأن الجزية كان يدفعها غير المسلمين، من أجل الدفاع عنهم، كونهم فشلوا في ذلك. وأتم الدكتور أحمد زكريا الشلق بأن خروج مثل هذه الدعوات من حين إلى آخر ليس لها قيمة، وهي نوع من التهور الذي يظهر وقت الخلافات السياسية.