مذكرات وريثة العروش هي مذكرات للأميرة بديعة بنت علي بن الحسين. أبوها علي بن الحسين الذي تنازل له والده الشريف حسين عن ملك الحجاز بعد أن خانه الإنجليز فلم يعطوه خلافة العرب التي وعدوه بها حين تحالف معهم ضد الرجل المريض( الخلافة العثمانية)، تنازل أبوها عن عرش الحجاز بعد أن حاصرته قوات بن سعود في جدة التي لجأ إليها بعد دخول القوات السعودية مكة والطائف. عمها عبدالله أصبح ملكاً على شرق الأردن وعمها فيصل أصبح ملكاً على سوريا لكن بريطانيا التي حالفته خذلته أمام الفرنسيين، فقضوا على مملكته في سوريا، وهنا عوضته بريطانيا بحكم العراق. حكمت الأسرة الهاشمية العراق سبعة وثلاثين عاماً، لها ثلاثة ملوك هم فيصل الأول والثاني وبينهما غازي، فيصل الأول مات في الخمسين، أما غازي فلقي مصرعه في حادث سيارة وهو في السابعة والعشرين، فيصل الثاني ابنه كان طفلاً فتم تعيين خاله الأمير عبدالإله (شقيق المؤلفة) وصياً على العرش حتى بلغ سن الثامنة عشرة وتولى كامل سلطاته عام ١٩٥٣. وانتهى حكمه بقتله على يد الانقلابيين في سن الرابعة والعشرين عام ١٩٥٨، في ثورة عبدالكريم قاسم. وعليه فإن حكم الهاشميين للعراق لم يدم إلا عمراً يسيراً.
ظهرت هذه المذكرات عام ٢٠٠٢، و يبدو أن توقيتها جاء في الفترة التي ظهرت فيها ترشيحات لعودة الأسرة المالكة لحكم العراق عشية الحرب الأمريكية الأخيرة علي صدام. يحن الناس إلى ماضيهم خاصة عندما يصبح حاضرهم قاسياً. وتجربة العراقيين مع رؤسائهم كانت تجربة غارقة في الدماء، ولكن هل كانت عودة الحكم الملكي حلاً عملياً؟
لم تتطرق المذكرات لسياسة الملكيين في العلاقات الدولية، وهذا أمر متوقع خاصة وأن صاحبة المذكرات كانت من بنات الملوك اللواتي لم تكن أمامهن فرصة للعمل السياسي آنذاك بل حتى مجال العمل العام كان غير متاح، وتجربتها الوحيدة في العمل العام كانت يوم أن عملت بالتمريض مع الجيش العراقي الذي حارب في فلسطين عام ١٩٤٨، وتذكر أنها حثت الملك عبدالله عمها على عدم الاستجابة لقرارات الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار.
سياسة الهاشميين كانت في العادة موالية لبريطانيا، وهذا أحد أسباب الانقلابات التي جرت عليهم في العراق والأردن. الأشراف وخاصة في العراق كان يملؤهم شعور بخيبة الأمل من الإنجليز الذين خدعوهم وقسموا الدول العربية بناء على اتفاقات سايكس بيكو بينهم وبين فرنسا لكن معظم سياستهم ظلت تحافظ على تميز علاقاتها مع بريطانيا، تذكر الأميرة أن العراق لم ينسحب من حلف بغداد بعد العدوان الثلاثي على مصر، وتعد ذلك من أخطاء نوري السعيد الكبيرة آنذاك. وقد كان حلف بغداد موضوعاً يعرض الحكم الشريفي لغضب النظام المصري والجماهير العربية المتأثرة به وخاصة بعد هزيمة الجيوش العربية في عام ١٩٤٨. الملك غازي بن فيصل في العراق والأمير طلال بن عبدالله في الأردن كلاهما كانا يعلنان الاعتراض على سياسات بريطانيا، بل وحاول الملك غازي التواصل مع الألمان.
في هذه المذكرات عرضت الأميرة حياة الهاشميين خلال حكمهم في العراق، ويتضح لنا أن حياتهم لم يكن فيها ما يستفز الشعب العراقي ويثير حنقه، كما وأظهرت أنهم كانوا أقرب إلى الديمقراطية والمسالمة، ولم يكن سفك الدماء أمراً شائعاً في عصرهم مقارنة بالعصور التي تلتهم.
حياة العائلة المالكة كما تقول الأميرة كانت أقرب إلى البساطة، الملك فيصل الأول سكن قصر الحرم وهو قصر عثماني قديم كما ابتنى قصر الحارثي وعلى الوصف هو أقرب إلى البيت الشعبي الكبير منه إلى القصر، بعد ذلك تم بناء قصر الزهراء بناء حديثاً وجلب له الأثاث من بريطانيا، أما قصر الرحاب الذي حدثت فيه المجزرة يوم الانقلاب فكان على نماذج الفيلات في مصر، وأثاثه من لبنان وفلسطين. دارت شائعات حول حياة فيصل الأول وبعض العلاقات النسائية إلا أن الأميرة نفتها، بينما ذكرت أن غازي كان صاحب مغامرات ومجوناً وأنه كان شارباً عندما تدهورت السيارة التي كان يقودها وأدى إلى وفاته. كما ذكرت آسفة أن الشراب قد كان يقدم للضيوف في قصر الملك فيصل الأول بناء على توصية اثنين من مستشاريه. عبدالإله الوصي على العرش لم يكن يشرب الخمر و حرص على تجنيب ابن أخته فيصل الثاني كل ما يمكن أن يؤدي به إلى المجون أو شرب الخمر. اصطحبت العائلة بعض جواريها وعبيدها و آغواتها من الحجاز، ولكن ضرورة تعلم الإنجليزية بجانب العربية والتركية التي يتحدث أبناء العائلة المالكة بها، أدت إلى وجود مربيات ومعلمات إنجليزيات معهم في بيوتهم. معظم إجازات الصيف كانوا يقضونها في محافظة صلاح الدين في مناطق الأكراد، إلا أن بعض أفراد العائلة كان يقصد لندن للتسوق والسياحة، كما وذهبوا أحياناً للسباحة في لبنان واستضافهم الملك فاروق للسياحة في مصر، وعندما دعتهم الملكة فريدة لزيارتها في قصر عابدين أذهلهم بذخ القصر مقارنة بقصورهم في العراق، وكثيراً ما زارتهم المطربة أم كلثوم خلال زيارتهم لمصر. أيضاً ذهبت الأميرة بديعة إلى ألمانيا لعمل عملية في الكبد، وكان ذلك بناء على توصية طبيبهم الإنجليزي.
مارست رئاسة الوزراء والبرلمان بعض الرقابة غير المعتادة في أحوال كهذه على العائلة، مثلاً ياسين باشا الهاشمي أعد قانوناً في عام ١٩٣٥، يحدد من هم أفراد الأسره المالكة الهاشمية، أمر أدى مثلاً إلى أن زوج الأميرة بديعة لم يكن معتبراً من العائلة المالكة، نظراً لأنه من الفرع الشريفي الذي غادر الحجاز إلى مصر مع إبراهيم باشا عند عودته من معاركه في الجزيرة العربية .وكذلك في رحلة عودة الملكة عالية أم الملك فيصل الثاني بعد علاجها في لندن اعترض البرلمان على صرف تكاليف المرافقين لها ومنهم طبيبان كانا مطلوبين لمتابعة حالتها الصحية الخطرة وهي تقضي أيامها الأخيرة، بل ورفضت أمانة بغداد رصف شارع صغير بين الجناحين الخارجي والداخلي لقصر الرحاب. أما عن مخصصاتهم المالية فتذكر أن مخصص والدها كان مئتين وخمسين ديناراً عراقياً في عشرينيات القرن الماضي، وكما تقول كان لا يكفي لإعالته عائلته ومن اختاروا المنفى معه من حاشيته في الحجاز. ولذا أقطعه أخوه مزرعة النعمانية على دجلة، ولم تكن هناك مخصصات للملكة ولأم الملك ولا لفيصل الثاني عندما كان ولياً لعهد والده، أما أخوها عبد الإله الوصي على العرش فقد مات مديناً للدولة العراقية بحوالي أربعين ألف دينار، وكانوا ينفقون على أنفسهم من دخل أملاكهم في الحجاز وفي مصر قبل تأميمها.
تعرضت حياة العائلة المالكة الخاصة لبعض الاهتزازات، فإحدى بناتها التقت نادلاً يونانياً في إحدى زياراتها إلى هناك، ودبرت أن تفارق أهلها لتتزوجه في اليونان، وقد استولى الرجل على مجوهراتها ثم طلقها، فعاشت مشردة حتى تعرف عليها بعض الإيطاليين والإنجليز عام ١٩٣٩ خلال الحرب العالمية الثانية وكانوا يقدمون لها بعض المساعدات، ثم تمكنت من لقاء الأمير عبدالإله وطلبت منه الصفح فساعدها في أن تسكن القدس وخصص لها مرتباً مشترطاً ألا تتعرف على العائلة وألا يتعرف عليها منهم أحد، وبقيت كذلك حتى تواصلت مع الأمير نايف بن عبدالله في الأردن فسعى عند والده للصفح عنها وكفالتها، أدى ما حدث من الأميرة عزة إلى موافقة الأسرة على زواج أختها راجحة من طيار عراقي كانت العائلة معترضة على مصاهرته. وسبب الاعتراض هو أنهم مالوا للاعتقاد أنه يطمح للثروة من خلال مصاهرتهم، وبالفعل فبعد الزواج ترك الرجل الجيش العراقي وتفرغ لأعماله الخاصة ليصبح من أكبر مستوردي الأدوية في العراق، ولكنه كان كريماً مع زوجته بعد انتهاء ملك العائلة. يلفت نظر القارئ ما تحدثت به الأميرة عن الأمراء الذين أصيبوا بأمراض نفسية، فأختها الأميرة جليلة انتحرت بعد مرضها النفسي الذي كان يتهيأ لها فيه أن عائلتها ستُقتل على أيدي الشيوعيين. وذكرت أن الملك طلال بن عمها وريث عرش الأردن قد أبعد عن الملك بسبب مرضه النفسي، وكذلك ابنه الأكبر محمد بن طلال الشقيق الأكبر للملك حسين الذي تم استبعاده من وراثة العرش أيضاً لنفس السبب.
في المذكرات تدلل الأميرة على أن أهلها لم يكونوا من محبي عقوبات الإعدام، وتذكر أن والدها كان يأسف على تنفيذ حكم الإعدام الذي تم بحق اثنين من العسكر التركي ارتكبا جرائم أدت إلى إصدار حكم بالإعدام عليهما، حاول والدها أن ينقذهما بالإيحاء لهما بتغيير أقوالهما بحيث يكون فعلهما غير متعمد حتى ينجيهما من الإعدام ولكنه لم ينجح، وظل خيالهما يؤرقه. أما ابنه عبدالإله فقد كان كثير التردد بخصوص المصادقة على حكم إعدام أصدره القضاء بحق أحد المجرمين ولكن الضغوط الشعبية أوصلته في النهاية إلى التصديق على الحكم. وكذلك كان عصبياً متردداً غير راغب في التصديق على أحكام صدرت بإعدام أربعة ضباط تمت إدانتهم بعد فشل انقلاب رشيد عالي الكيلاني.
قام في العراق انقلابان قبل الانقلاب الأخير على العائلة المالكة، الانقلاب الأول قام به بكر صدقي وتمكن فيه من إبعاد ياسين باشا الهاشمي رئيس الوزراء الذي كان يمارس تسلطاً على العائلة المالكة، ولكن العائلة المالكة ضاقت ببكر صدقي في النهاية لأنه كاد يتحول إلى موسوليني العراق، خاصة لأنه قتل وزير الدفاع الذي أسس الجيش العراقي جعفر العسكري. أما الانقلاب الثاني فهو انقلاب رشيد عالي الكيلاني الذي كان من بين قادته الحاج أمين الحسيني، كان هدف الانقلاب التخلص من الإنجليز والتعاون مع الألمان في سبيل ذلك، وحاول أن يحصل على موافقة أم الملك فيصل الثاني ليتم تعيين الشريف سيف وصياً على العرش بدلاً من الأمير عبد الإله فرفضت مطلقاً، الأمير عبدالإله اختفى في السفارة الأمريكية ثم انتقل بين قاعدة الحبانية حيث الجيش البريطاني والبصرة والأردن، وتمكن من هزيمة الانقلابيين بدعم من الجيش الإنجليزي والجيش الأردني.
ويبدو من خلال هذه المذكرات أن العائلة المالكة كانت مقبولة عند الشيعة والسنة والأكراد، تقول مثلاً إن والدها كان يستقبل في الأيام العشرة الأولى من محرم كل عام وفود المعزين بجده الحسين، بل وكان يشاركهم اللطم رغم أنه سني، وكذلك حاول رئيس وزرائهم محمد الصدر تزويج الملك فيصل الثاني من الأميرة شاهيناز أخت شاه إيران، ولكن العائلة لم توافق بعد أن لاحظوا أن الأميرة كانت تشرب الخمر.
تمت مجزرة قصر الرحاب التي قتل فيها الأمير عبدالإله ووالدته والملك فيصل الثاني وخالته ومعهم بعض المرافقين، قتلوا رغم أنهم لم يقاوموا، وسحلت جثة الأمير عبد الإله ورئيس وزرائه نوري السعيد في شوارع بغداد، ومارس الناس شغباً وقسوة غير معتادة، وقد شارك في قتلهم بعض حراسهم ويبدو أن رئيس الحرس كان متواطئاً مع الانقلابيين. ليس هناك مبرر لقتلهم بدم بارد، وليس هناك مبرر لأحد أن يقتل أحداً إلا بحكم قضائي نزيه وعادل. وقد يفهم حدوث قتل عند وجود مواجهة مسلحة وهذا لم يحدث، للأسف تاريخ المسلمين حافل بمثل ذلك عند أي صراع سياسي، انظر تاريخ يزيد بن معاوية، والحجاج، وقتل العباسيين لكل من عثروا عليه من بني أمية، ومآسي أعمام أبي جعفر المنصور والبرامكة، كلها تضاف إلى مآسينا الحاضرة وتاريخنا الحديث المخضب بالدماء. طبعاً الحكام الجمهوريون في العراق لاقوا مصيراً مشابهاً، ولكن صداماً وأمثاله استطاعوا إلى حين أن يتحصنوا بالحرس الجمهوري الذي أصبح مع الوقت أكثر كفاءة من الجيش، وكذلك بوسائل الاستخبارات التي سخرت المخترعات الحديثة في التجسس على الناس.
لجأت الأميرة بديعة وزوجها إلى السفارة السعودية في بغداد، حتى تم ترتيب خروجها إلى مصر ومن ثم إلى أوروبا، وقد تنكر لهم كثيرون حتى أن السفارات البريطانية ماطلت في منحهم تأشيرة الدخول، أما أمريكا فتحفظت على يخت كان يُبنى للملك فيصل، وكلفه ثمانين ألف دينار، ادعت إحدى الأمريكيات أن ابنتها قد تزوجت الملك ولم تكن علاقته بها تزيد على زيارتين في وجود أفراد العائلة. وقد شهدت الأميرة الهاشمية فخر النساء أن هذه الأمريكية بالفعل كانت زوجة للملك المقتول مقابل أخذها رشوة بمبلغ خمسة عشر ألف دولار وأخذت الزوجة الأمريكية المزعومة الباقي!
وعندما ننتهي من المذكرات لا بد أن يخطر ببالنا تساؤل؟ هل هناك من احتمال لعودة العائلة المالكة في العراق، أظنها مجرد أضغاث أحلام، فسياساتهم الدولية لم يكن مرضياً عنها من شعوبهم، وإخفاقاتهم الكبيرة في السياسة الدولية لا تشجع على الاعتقاد بأنهم سيكونون خياراً شعبياً، وإن كان يمكن أن يكون خياراً لقوة عظمى كأمريكا، ولعل ما جاء عند بعض مذاهب المسلمين من اشتراط الإمامة في قريش يكون بوابتهم إلى الشرعية.
أخيراً لم أر في المذكرات ما جعل مؤلفها يقول إنها أهم وثيقة عربية في القرن العشرين، وإنما أهميتها من أنها عبرة من عٍبر التاريخ، نرى فيها سنة من سنن الله في حياة البشر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.