"تاج محل" ليس فقط جوهرة الفن الإسلامي في الهند، وواحد من عجائب الدنيا؛ بل هو أيضاً تجسيد لشغف إمبراطور عاشق يدعى شاه جيهان، وانعكاس لجمال إمبراطورة اتصفت بحسنها وتواضعها تدعى ممتاز محل.
فما قصة الإمبراطور شاه جيهان وزوجته ممتاز محل التي كانت رفيقة أسفاره ومستشارته في حروبه وأنجب منها 14 ولداً؟ ولماذا شاب شعر رأسه بعد رحيلها وبنى لها ضريحاً بعظمة تاج محل؟ وهل فعلاً أمر بقطع أيدي المهندسين والحرفيين الذين أسهموا في بناء هذه التحفة المعمارية؟
ممتاز محل، الحسناء التي بُني لأجلها واحد من عجائب الدنيا السبع
عندما خُطبت ممتاز محل لزوجها المستقبلي شاه جيهان، كانت تبلغ من العمر 14 عاماً فقط، في حين كان عمره 15 عاماً.
وُلدت هذه الفتاة الحسناء في مدينة "أغرا" لعائلة من طبقة النبلاء، واسمها الحقيقي أرجماند بانو بيغوم، وقد منحها زوجها الإمبراطور لاحقاً لقب ممتاز محل، الذي يعني "جوهرة القصر".
كانت ممتاز محل مشهورة بثقافتها وحبها للعلم وإتقانها اللغتين العربية والفارسية، كما كانت شاعرة تكتب قصائد باللغة الفارسية، وعُرفت بتواضعها رغم جمالها الساحر الذي جذب النبلاء إلى خطبتها في سن مبكرة.
إلا أن والدها أبو الحسن عساف خان، النبيل الفارسي الثري الذي تولى مناصب عليا في إمبراطورية المغول، اختار تزويجها بالأمير خورام، الذي أصبح لاحقاً إمبراطوراً لدولة المغول وبات يُعرف بالإمبراطور شاه جيهان.
الزوجة الثانية والحب الأخير
دامت خطبة شاه جيهان وممتاز محل من عام 1607 حتى 1612، وخلال سنوات الخطبة الخمس هذه تزوج شاه جيهان بزوجته الأولى الأميرة قندهار بيجوم، وعندما بلغت ممتاز محل سن الـ19 تزوجت شاه جيهان، لتكون بذلك زوجته الثانية.
وقد تزوج شاه جيهان كذلك بالثالثة بعد فترة من زواجه بممتاز محل، إلا أن المؤرخين ذكروا أن زيجاته تلك كانت عبارة عن تحالفات سياسية بحتة، وأن ممتاز محل كانت حبه الذي لا ينضب.
كان شاه جيهان مأخوذاً بممتاز محل، لدرجة أنه بالكاد كان يجتمع بزوجاته الأخريات، فقد كانت ممتاز محل حبيبته وصديقته ورفيقته الدائمة وحتى مستشارته في أمور الحكم والسياسة.
كما منح الإمبراطور لزوجته المحبوبة ما لم يمنحه لمن سواها من نفقة وامتيازات مادية، فلم يزيَّن سكن من سواها من زوجات الإمبراطور بالذهب الخالص والأحجار الكريمة، ولم تُصنع نوافير ماء الورد إلا في حدائق قصر ممتاز محل.
وقد كان لا يطيق الابتعاد عنها، لدرجة أنه كان يصحبها معه في جميع رحلاته وغزواته وحملاته العسكرية رغم حملها المتكرر، فقد أنجبت ممتاز محل للإمبراطور 14 ولداً (ثمانية أبناء وست بنات)، مات سبعة منهم عند الولادة أو في سن مبكرة جداً خلال 19 عاماً قضاها الزوجان معاً.
الإمبراطورة المغولية، ملكة العالم
عندما وصل شاه جيهان إلى العرش في عام 1628 اختار ممتاز جيهان لتكون إمبراطورة المغول، متجاوزاً بذلك زوجته الأولى، وقد أطلق عليها لقب "مليكة جهان" أي "ملكة العالم" و "مليكة الزمزاني" أي "ملكة العصر".
كانت مدة جلوس ممتاز محل على عرش الإمبراطورية قصيرة لم تتجاوز ثلاث سنوات، بسبب وفاتها المبكرة، ولم يكن لدى ممتاز محل أية مطامح سياسية على الرغم من المكانة المرموقة التي تبوأتها في دولة المغول والصلاحيات الكبيرة التي كانت بين أيديها.
وقد كانت ترعى الفقراء والمعوزين وتمدهم بالعطايا، كما قامت برعاية عدد من الشعراء والعلماء والموهوبين الذين تميزوا في عصرها.
وعندما تولى شاه جيهان العرش عمد إلى استشارة زوجته في كل شؤون الدولة، فقد عملت مستشاراً مقرباً منه في أمور الحكم والحرب، وكانت شفاعتها كافية ليسامح الإمبراطور أعداءه أو يخفف عنهم أحكاماً قد تصل إلى الإعدام.
ولم يكتف بذلك فحسب؛ بل منحها أيضاً ختمه الإمبراطوري الذي كانت تصدّق به على المراسيم كافة المتعلقة بشؤون الإمبراطورية الداخلية والخارجية، بمعنى آخر كانت تشاركه في الحكم بكل تفاصيله.
الحزن يثقل كاهل الإمبراطور
توفيت الإمبراطورة بسبب نزيف حاد أصابها 5ي أثناء ولادة طفلها الرابع عشر، بعد مخاض طويل استمر نحو 30 ساعة في عام 1631، عن عمر يناهز 38 عاماً.
وقد تم دفن جسدها مؤقتاً بمدينة "برهانبور" في حديقة مسورة معروفة باسم زينباد على ضفة نهر تابتي.
وفي أعقاب فجيعة الإمبراطور بزوجته الراحلة، قيل إنه حزن حزناً أشاب شعره وغيَّر ملامح وجهه وأحنى ظهره، إذ مكث في عزلة تامة عاماً كاملاً، وقيل إن ابنته الكبرى جهانار بيجوم استطاعت أن تخرج والدها تدريجياً من هذا الحزن، ليستعيد عافيته ويقرر بناء واحد من أعظم الصروح التاريخية في العالم الإسلامي: تاج محل.
22 عاماً لبناء "تاج محل"
إضافة إلى كون تاج محل تحفة معمارية من روائع الفن الإسلامي، وواحداً من عجائب الدنيا السبع، يعتبر أيضاً نصباً تذكارياً للحب الذي لا ينضب.
كان الإمبراطور شاه جيهان قد وعد زوجته ممتاز محل بألا يتزوج بعدها أبداً ووفى بوعده، وخلَّد ذكراها إلى يومنا هذا ببناء ضريح ضخم، ليضمَّ رفاتها، استغرقت مهمة بنائه 22 عاماً.
إذ وضع تصميمه المهندس المعروف بعيسى شيرازي وأمان الله خان شيرازي، وشُيِّد تاج محل في مدينة أغرا بالمرمر الأبيض بأسلوب معماري فريد يجمع بين الطراز المعماري الفارسي والتركي والعثماني والهندي.
وعدا عن الأسلوب المعماري الفريد الذي اتبع في بناء هذا الضريح، استخدم المهندسون العديد من أساليب الخداع البصري التي جعلت من تاج محل تحفة ترقى لمستوى واحد من عجائب الدنيا السبع، إذ يتغير لون البناء مع اختلاف أوقات النهار بحسب موقع الشمس وانعكاس الماء على المرمر الأبيض.
وعندما أتم الحرفيون بناء تاج محل تم نقل رفات الإمبراطورة ممتاز محل في تابوت ذهبي إلى ضريحها الجديد.
هناك عديد من النظريات حول أصل اسم "تاج محل"، إذ يذهب بعض المؤرخين إلى أن اسم "تاج محل" اختصار لاسم "ممتاز محل".
بينما يقول آخرون إن السكان المحليين في أغرا قد أطلقوا على الإمبراطورة اسم "تاج محل"، واعتقدوا أن المقبرة قد سُميت باسمها، لكن لا توجد دلائل قوية على أصل الاسم بكل الأحوال.
ويقول الشاعر الإنجليزي السير إدوين أرنولد، إن ما يميز تاج محل عن أي صرح معماري آخر هو الشغف الذي بُني به والذي يعكس عشق الإمبراطور لزوجته، إذ يعتبر جمال تاج محل وتميزه انعكاساً لجمال ممتاز محل وموقعها في قلب الإمبراطور العاشق.
أساطير تحيط بالمكان
قيل إن الإمبراطور شاه جيهان قد أمر المهندسين بأن يصمموا تاج محل بطريقة يتمكن فيها من مشاهدة الضريح أو انعكاسه في الماء من كل جانب من جوانب قصره.
وقيل أيضاً إن الإمبراطور قد أمر بقطع أيدي المهندسين والحرفيين الذين أسهموا في بناء هذه التحفة المعمارية، كي لا يقوموا بتصميم وصنع مثلها في أي مكان آخر بالعالم، إلا أنه لا توجد دلائل قطعية تثبت هذه الأقاويل، وربما هي مجرد مبالغات رواها العامة في وصفهم لعظمة هذا الضريح وتميّزه.
وبقي الإمبراطور العاشق يطل من شرفته، ليملي عينيه من ضريح محبوبته إلى أن توفي هو أيضاً ودُفن بجانب حبه الأبدي.