"شعب إسكتلندا تكلم، وحان الوقت لتقرير مستقبلنا"، بهذه الكلمات ردت رئيسة وزراء إسكتلندا، نيكولا ستيرجن، على فوز بوريس جونسون بالانتخابات البريطانية. الموقف الإسكتلندي يأتي ليؤكد رفض الإسكتلنديين الخروج من الاتحاد الأوروبي والذي يؤيده حزب المحافظين في بريطانيا تحت عنوان بريكست أو Brexit.
ويبدو أن نقطة الخلاف هذه ستفتح أبواب الصراع السياسي في المملكة المتحدة التي تضم تحت لوائها إنكلترا وويلز وإسكتلندا وأيرلندا الشمالية منذ عام 1707.
فكيف نجحت في ضم هذه الأقاليم والسيطرة على الحركات التمردية فيها، والتي يبدو أنها ستعود من جديد، وإن بصيغة سياسية معاصرة؟
تتكون المملكة المتحدة من أربع دولٍ تأسيسيّة: إنكلترا وويلز وإسكتلندا وأيرلندا الشمالية. ولكن منذ عهد طويل، كان هناك توترات بين إنكلترا ودول المملكة المتحدة الثلاث الأخرى. يعزى ذلك جزئياً إلى أن إنكلترا طالما كانت هي القوة السياسية المهيمنة بين هذه الدول.
كمت أن إنكلترا ضمت جميع هذه الدول عن طريق الغزو والاتحاد السياسي.
إنكلترا تضم ويلز، وتفشل في إخضاع إسكتلندا
تاريخ هذه التوسعات السياسية يعود لعام 927، عندما حصلت مملكة إنكلترا على أول دولة بريطانية عن طريق الغزو، بحسب ما نشرت قناة History.
في أواخر القرن الثالث عشر، غزا الملك إدوارد الأول إمارة ويلز الغربية زاعماً أنها إقليم تابع لإنكلترا. ثم غزا مملكة إسكتلندا في الشمال وبدأ بذلك حرب الاستقلال الإسكتلندية الأولى (التي صوّرها فيلم Braveheart).
خرجت إسكتلندا من حرب الاستقلال الإسكتلندية الأولى والثانية دون المساس بسيادتها، بينما ظلت ويلز إقليماً محتلاً.
بداية من إدوارد الأول، منح الملوك الإنكليز لأولياء عهدهم لقب "أمير ويلز" للدلالة على سيطرتهم على الإقليم.
ولا يزال هذا التقليد مستمراً حتى اليوم مع الأمير تشارلز، أمير ويلز. وكان يُطلق كذلك لقب أميرة ويلز على الأميرة ديانا الراحلة خلال زواجهما.
فتاريخ ضم ويلز لم يكن بهذه السهولة، إذ شهدت أوائل القرن الخامس عشر البطولات الملحمة لأوين غليندير؛ بطل ويلز الوطني.
قاد غليندير آخر تمرد خطير ضد الحكم الإنجليزي من أجل استقلال ويلز، على طريقة حرب عصابات، كانت تعتمد على مهاجمة القلاع وتجنب المعركة مفتوحة.
فاز بالعديد من المعارك الضارية التي ضمنت مكانته في تاريخ الويلزية. تسبب تحديه الفخور في مشاكل اقتصادية وسياسية حادة للملك هنري الرابع، فأفسد معظم فترة حكمه.
ولكن في النهاية، تم قمع التمرد، وتحول غليندير رمزاً وطنياً كما كان ويليام والاس في إسكتلندا.
ومع ذلك، لم تصبح ويلز جزءاً رسمياً من مملكة إنكلترا حتى ثلاثينيات وأربعينيات القرن السادس عشر.
ففي عهد الملك هنري الثامن، أقرت إنكلترا قوانين الاتحاد، موسّعة بذلك نطاق سريان القوانين والقواعد الإنكليزية لتمتد إلى ويلز. وكان هذا أول اتحاد سياسي كبير لما سوف يصبح فيما بعد المملكة المتحدة.
إنكلترا وإسكتلندا تشكلان اتحاداً في هيئة "بريطانيا العظمى"
عندما توفيت الملكة إليزابيث الأولى في عام 1603، كان الشخص التالي في ترتيب الخلافة على العرش هو ابن عمها، الملك جيمس السادس ملك إسكتلندا.
وحينها، حصل هذا الملك على اسم ثانٍ؛ جيمس الأول ملك إنكلترا.
بالرغم من أن إسكتلندا وإنكلترا كانتا تشتركان في نفس الملك، إلا أنهما كانتا مملكتين منفصلتين سياسياً، ولكل منهما برلمان خاص بها.
وعلى مدار القرن التالي، كانت هناك عدة محاولات فاشلة لدمجهما في دولة واحدة.
انتهت هذه المحاولات في عام 1707، عندما اتحدت إنكلترا وإسكتلندا في هيئة "بريطانيا العظمى" في عهد الملكة آن (التي ظهرت في فيلم The Favorite).
يقول كريستوفر واتلي، أستاذ التاريخ الإسكتلندي بجامعة دندي، ومؤلف كتاب The Scots and the Union: Then and Now، إنه كانت هناك عدة دواعٍ لهذا الاتحاد. كانت أحدها أن إسكتلندا كانت مديونة بعد محاولة تأسيس إمبراطورية استعمارية في الأمريكتين على غرار إنكلترا والبرتغال وإسبانيا.
يوضح المؤرّخ الإسكتلندي: "أدرك الإسكتلنديون أن الواقعية السياسية للموقف، إن جاز التعبير، اقتضت أنهم إذا كانوا يريدون إنشاء أسواق وعلاقات خارج البلاد، فإنهم بحاجة إلى دعم من قوة بحرية أقوى، التي كانت إنكلترا".
ورأى عديد من الإسكتلنديين الاتحاد وسيلة لمنع بيت ستيوارت الكاثوليكي من استعادة الملكية المطلقة، وتأمين مستقبل إسكتلندا في ظل ملكية دستورية بروتستانتية.
وبالنسبة إلى إنكلترا، كانت هناك مخاوف من أنها إذا لم تتّحد مع إسكتلندا، أن تقف الأخيرة ضدها مع فرنسا في حرب الخلافة الإسبانية.
لذلك، وافقت إنكلترا في عام 1707 على منح إسكتلندا أموالاً لسداد ديونها، واعتمد برلمان إنكلترا وبرلمان إسكتلندا قوانين الاتحاد لتصبحا دولة واحدة.
بريطانيا العظمى تتحد مع أيرلندا الشمالية وتخسر جنوب أيرلندا
لقب جيمس السادس بملك إسكتلندا وملك إنكلترا وملك أيرلندا أيضاً.
بالعودة مرة أخرى إلى أربعينيات القرن السادس عشر، أصبحت أيرلندا مملكة تابعة لإنكلترا، ونصّ قانون تاج أيرلندا لعام 1542 على أن ملك إنكلترا بات حينها ملكاً لأيرلندا.
كان هنري الثامن أول شخص يحمل كلا اللقبين. وكان آخر من حمله هو جورج الثالث، الذي أشرف على إنشاء المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا عام 1801.
يقول واتلي إن إنكلترا استخدمت اتحادها عام 1707 مع إسكتلندا ليكون نموذجاً لاتحاد بريطانيا العظمى وأيرلندا عام 1801.
ومع ذلك، لم يدم الاتحاد الأيرلندي كنظيره الإسكتلندي.
بين عامي 1919 و1921، حارب الجيش الجمهوري الأيرلندي من أجل الاستقلال عن المملكة المتحدة، وانتهت حرب الاستقلال الأيرلندية في عام 1922 بتقسيم أيرلندا إلى منطقتين: الشمالية والجنوبية.
ظلت المنطقة الشمالية جزءاً من المملكة المتحدة، التي غيرت اسمها إلى المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية.
أصبحت المنطقة الجنوبية الدولة الأيرلندية الحرة، التي بالرغم من اسمها، كانت لا تزال جزءاً من الكومنولث البريطاني.
وفي عام 1937، أصبحت المنطقة الجنوبية دولة أيرلندا ذات السيادة (أو جمهورية أيرلندا) التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي في عام 1973، وما زالت عضواً حتى اليوم.
النعرات القومية في الأقاليم تتحول لدموية
بعد الحرب العالمية الثانية، طرأت زيادة في النعرة القومية في ويلز وإسكتلندا وأيرلندا الشمالية.
اتّخذ الأمر طابعاً نشاطيّاً وصراعات مسلّحة بالإضافة إلى نشأة أحزاب سياسيّة شددت على الاستقلال عن المملكة المتّحدة.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2019، ازدادت المباحثات حول الاستقلال الإسكتلندي وإعادة توحيد الجزيرة الأيرلندية بعد الانتخابات التي كفلت لزعيم حزب المحافظين بوريس جونسون البقاء رئيساً للوزراء في المملكة المتحدة ومواصلة خطة انسحابها من الاتحاد الأوروبي، وفقاً لاستفتاء يونيو/حزيران عام 2016، أو ما يُطلق عليه البريكست.
و"البريكست" لحظة فاصلة للإسكتلنديين
حظي انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بقبول شعبي أقل في إسكتلندا وأيرلندا الشمالية مقارنة بإنكلترا.
وليس هناك إلا طريقة واحدة لكلتا الدولتين من أجل البقاء في الاتحاد الأوروبي، وسيكون ذلك من خلال إعلان الاستقلال عن المملكة المتحدة.
في حالة أيرلندا الشمالية، قد يعني هذا إعادة التوحيد مع جمهورية أيرلندا.
وأجرت إسكتلندا بالفعل استفتاءً على الاستقلال في عام 2014، صوتت فيه بنسبة 55% لصالح البقاء في المملكة المتحدة.
غير أن كثيراً من الأمور تغيرت منذ ذلك الحين. ففي أعقاب انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2019، قالت رئيسة وزراء إسكتلندا نيكولا ستيرجن إنها ستتخذ الخطوات اللازمة للدعوة إلى استفتاء آخر من أجل الاستقلال.
موقف ستيرجن ينبع من حقيقة فوز الحزب الوطني الإسكتلندي الذي تتزعمه بـ48 مقعداً من أصل 59 مقعداً لإسكتلندا في البرلمان البريطاني في الانتخابات العامة التي جرت مطلع ديسمبر/كانون الأول 2019.
وقالت في خطاب رداً على فوز جونسن المؤيد لبريكست إن رئيس الوزراء البريطاني الجديد "ليس لديه تفويض، على الإطلاق، لأخذ إسكتلندا خارج الاتحاد الأوروبي"، وأنها ستقوم خلال الأسبوع المقبل بتبرير الحاجة لنقل الصلاحيات إلى بلادها، حتى يتسنى إجراء استفتاء مستقل، مشددة أن "شعب إسكتلندا تكلم، وأنه حان وقت تقرير مستقبلنا".
ويعني انفصال إسكتلندا عن بريطانيا فقدان ثلث مساحتها تقريباً، وانخفاض عدد سكانها من 64 إلى 58 مليوناً و600 ألف، وخسارة 245 مليار دولار من دخلها القومي كل عام، وجدلاً حول تقاسم الثروات النفطية في بحر الشمال.
وعن هذا يقول واتلي: "أصبح اتحاد عام 1707 أقرب إلى التفكك من أي وقت مضى في تاريخه".