جريئة وقوية وطموحة وجميلة، هكذا وُصفت الملكة العربية المقاتلة زنوبيا ملكة تدمُر، التي تمكنت من الوقوف بوجه الإمبراطورية الرومانية والانتصار عليها، لتحكم ولو لفترة قصيرة من الزمن أراضي شاسعة امتدت من العراق شرقاً وصولاً إلى مصر.
وبعد مئتي عام من محاربة الملكة المصرية كليوباترا، وجدت روما نفسها تشن حرباً على امرأة أخرى متمردة، لكن هذه المرَّة كانت ملكة عربية على ما نعرفه اليوم بسوريا.
حكمت زنوبيا تدمُر، التي كانت تابعة للرومان، منذ عام 267 أو 268 إلى عام 272م، وكما انتصرت على الرومان، انهزمت أمامهم لاحقاً بعدما خلّد التاريخ إنجازاتها الكبيرة وجرأتها على مواجهة أكبر إمبرطورية في التاريخ، لتصبح ملكة عربية لا مثيل لها.
فما قصة الملكة زنوبيا؟
زنوبيا ملكة تدمُر
وفقاً للموسوعة البريطانية، كانت زنوبيا متزوجة بأوديناثوس، حاكم تدمر المعيَّن من قبل الرومان، والذي نجح في الدفاع عن تدمر من الفرس.
بقيت تدمُر موالية لروما، على الأقل ظاهرياً، بعد أن تمكن أوديناثوس من اختراق الخطوط الفارسية وإجبارها على التراجع إلى الأراضي الفارسية.
وبعد اغتيال أوديناثوس وابنه الأكبر من زوجته السابقة، أصبحت زنوبيا حاكمة بالوصاية على ابنها الصغير وهابالات أو وابلات، والمعروف باسم فابالاتوس باللاتينية وأثينودوروس باليونانية.
لا يُعرف الكثير عن تربيتها وتعليمها، لكن بالاعتماد على مصادر من الإمبراطورية الرومانية، صاغ المؤرخ البريطاني في القرن الثامن عشر إدوارد جيبون أوصافاً مُفصلة لها في كتابه الكلاسيكي المؤلف من ستة مجلدات "تاريخ تراجع الإمبراطورية الرومانية وسقوطها"، والذي قال عن الملكة زنوبيا خلاله:
"رُبما كانت زنوبيا الأنثى الوحيدة التي اخترقت عبقريتها الفائقة العبث الوحشي المفروض على جنسها. كانت زنوبيا محترمة وأكثر جمالاً وبطولة من بنات جنسها، تم تعزيز فهمها وزينتها الدراسة، لم تكن تجهل اللغة اللاتينية، لكنها امتلكت أيضاً زمام اللغة اليونانية والسريانية واللغات المصرية على قدم المساواة".
استغلت ضعف الإمبراطورية الرومانية
استغرق الإعداد للمواجهة بين الملكة زنوبيا والإمبراطورية الرومانية كثيراً من الجهد، وبحلول منتصف القرن الثالث الميلادي، كانت الإمبراطورية الرومانية غارقة في أزماتها السياسية والاقتصادية، وحدودها تتعرض للهجوم المستمر، ووسط كل هذا كانت الإمبراطورية تكافح من أجل الصمود.
لكنها تعرضت لهزيمة كارثية أدّت إلى الاستيلاء عليها في عام 260م، من قِبل الفرس؛ وهو ما أدى بالحكم الروماني إلى مزيد من الفوضى.
في أوروبا بدأت الإمبراطورية الغالية المتمردة في الانفصال عن روما، تُعرف الإمبراطورية الغالية أيضاً باسم "الإمبراطورية الغالية الرومانية"، وهي إمبراطورية نشأت في أثناء أزمة القرن الثالث بالتزامن مع تأسيس الإمبراطورية التدمرية، التي أسستها زنوبيا، في الشرق، من سنة 260 إلى سنة 274 ميلادية.
وبدأت هذه الإمبراطورية بعد أن أعلن مجموعة من القادة العسكريين و النبلاء الرومان استقلالهم في غرب الإمبراطورية عن روما.
كل هذا أدى إلى إضعاف الإمبراطورية الرومانية وتشتت انتباهها، بسبب التهديدات التي تواجهها على جميع الجبهات.
من ناحية أخرى رأت زنوبيا أن الفرصة سانحة لها، وأن لديها المساحة للانتصار على الإمبراطورية الرومانية.
أهمية مدينة تدمر
كانت مدينة تدمر في القرن الثالث الميلادي محلاً للثروة والثقافة والسلطة، بفضل موقعها بالقرب من الحدود الشرقية للإمبراطورية.
تقع تدمُر في وسط سوريا المعاصرة، على بُعد نحو 130 ميلاً شمال شرقي دمشق، وقد ازدهرت تدمُر منذ أن أصبحت تحت السيطرة الرومانية في القرن الأول الميلادي، وهي تقع على مفترق الطرق بين العالم المتوسطي الذي تحكمه روما والإمبراطوريات الكبرى في آسيا، وهو ما جعلها مركزاً ذا أهمية استراتيجية واقتصادية ضخمة.
كانت تدمُر أيضاً مكاناً للتوقف الإلزامي للقوافل التي تجتاز الصحارى، وقد أعطت الفيضانات التي تدفقت على تدمُر، لحكامها الوسائل لتجميل مدينتهم، وكذلك الثقة لتثبيت مكانتهم على المستوى الإقليمي.
وبحلول منتصف القرن الثالث، كانت الإمبراطورية التدمرية تتمتع بالفعل بدرجة معينة من الاستقلال، وإن كانت كدولة داخل الإمبراطورية الرومانية، وهو الأمر الذي سعت الملكة زنوبيا لتغييره.
الملكة توسع حدود مُلكها
على مرّ القرون، تعرضت رواية قصة حياة الملكة زنوبيا لقدر كبير من المضاربات والاختلافات العلمية.
يذكر تاريخ أوغسطين، وهو مجموعة رومانية من السير الذاتية المتأخرة، أن زنوبيا من نسل بطالمة مصر، ويُرجح أنها تنحدر من الملكة كليوباترا.
بينما اعتقد المؤرخون الشرقيون، مثل الطبري الفارسي في القرن التاسع، أن زنوبيا لم تكن يونانية، بل من أصل عربي.
ويتفق المؤرخون الحديثون على أن ملكة تدمُر لم تنحدر من البطالمة، ومن الأرجح أنها جاءت من عائلة بالميرين ذات النفوذ الواسع، التي سمحت لها بالحصول على قدر جيد من التعليم.
توطيداً للمكاسب التي حققها زوجها ضد الفرس، منذ عام 268، استغلت زنوبيا الضعف الإمبراطوري الروماني، الذي سمح لها بضم أراضٍ وبلدان من سوريا وتركيا ومصر المعاصرة.
وهناك عملات تحمل وجه زنوبيا، تم صكها في الإسكندرية نحو عام 274م، وهو العام المُحتمل لوفاتها.
فبعد أن أعلنت نفسها حاكمة بالوصاية على طفلها، سمحت لها هذه الخطوة بالسيطرة على المناطق في الشرق، التي استولى عليها الفرس مؤخراً، وقامت بإعدام الأطراف المسؤولة عن وفاة زوجها.
عرفت زنوبيا كيف تستغل لحظة ضعف الإمبراطورية الرومانية، وسخرت من الإمبراطور جاليانوس وجنرالاته، الذين كانوا عاجزين عن إيقافها.
وعندما تولى الإمبراطور الروماني، كلاوديوس غوتيكوس، لم يكن أمامه خلال فترة حكمه القصيرة من خيار سوى الاعتراف بسيادتها، فحققت زنوبيا هدفها: وجعلت تدمُر إمبراطورية مُساوية لروما.
غزو مصر والسيطرة على مزيد من البلدان
في عام 269-270، غزت زنوبيا بقيادة الجنرال زابدياس، مصر، التي كانت تحت حكم الرومان.
كانت القوات الرومانية تقاتل بعيداً القوطيين والأعداء الآخرين في الشمال، وكان كلاوديوس قد مات للتو، وضعفت كثير من المقاطعات الرومانية، بسبب طاعون الجدري؛ ومن ثم لم تكن المقاومة كبيرة.
عندما اعترض المحافظ الروماني على استيلاء زنوبيا على مصر، قامت زنوبيا بقطع رأسه، وبعثت بتصريح لمواطني الإسكندرية، واصفةً المدينة بأنها "مدينة أجدادي"، مؤكدة تراثها المصري.
بعد هذا النجاح، قادت زنوبيا شخصياً جيشها باعتبارها "ملكة مُحاربة"، واحتلت مزيداً من الأراضي، وضمن ذلك سوريا ولبنان وفلسطين.
أسست إمبراطورية مستقلة عن روما، وكانت هذه المنطقة من آسيا الصغرى تمثل منطقة طرق تجارية قيّمة للرومان، ويبدو أن الرومان قبلوا سيطرتها على هذه الطرق بضع سنوات.
وبصفتها حاكمة لتدمُر ومساحات كبيرة أخرى، كانت لزنوبيا عملات معدنية تحمل وجهها أو وجه ابنها؛ وهة الأمر الذي استفز الرومان.
كما قطعت زنوبيا أيضاً إمدادات الحبوب إلى الإمبراطورية؛ وهو ما تسبب في نقص الخبز بروما، لأنها وبحلول عام 270 كانت قد سيطرت على كل مصر وثروتها والحبوب التي تُقدمها إلى روما، وبدا أن إمبراطوريتها لا يمكن إيقاف توسعها.
إمبراطور روماني لا يتهاون مع خصومه يُغير كل شيء!
كان إمبراطور روما التالي، لوسيوس دوميتيوس أوريليانوس، نوعاً مختلفاً تماماً في التعامل مع الخصوم.
استحوذ أوريليان على السلطة عام 270، وكان يمتلك نظاماً عسكرياً صارماً، وخلال السنوات الأربع القصيرة من حكمه، ربح حرب أسلافه مع القوطيين، وصدّ الغزو البربري لشمال إيطاليا، واستعاد الحكم الروماني في مقاطعات الغال وإسبانيا.
وكانت قوة زنوبيا المتنامية وتحديها العلني للسلطة الرومانية، خاصةً بعد إعلان ابنها قيصراً عام 271م، أمراً ضخماً بما يكفي لجذب انتباه أوريليان.
نهاية الملكة الثائرة
لم يتردد الإمبراطور الجديد في إعلان الحرب عليها، فهزمت جيوش أوريليان جيوش زنوبيا في أنطاكية بتركيا الآن، وفي إيمسا، بسوريا الحالية.
كما قام بمحاصرة تدمُر، فحاولت زنوبيا وفابالاتوس الفرار من المدينة، لكن تم إلقاء القبض عليهما قبل أن يتمكنا من عبور نهر الفرات، وبعد ذلك استسلما.
تختلف المصادر حول مصير الملكة زنوبيا بعد أَسرها؛ وفقاً للبعض، فإن زنوبيا وفابالاتوس حضرا موكب النصر الذي احتفل به أوريليان في روما عام 274م، ومع ذلك، يزعم المؤرخون الآخرون أنها جُوّعت حتى الموت في أثناء الرحلة إلى روما.
مثل ولادتها، كانت الظروف الدقيقة لوفاة زنوبيا غير مؤكدة، تقول بعض المصادر العربية إنها انتحرت لتجنّب أَسرها، وتزعم المصادر الرومانية أن أوريليان، الذي لم يكن راغباً في قتل امرأة، أوصلها أسيرة إلى روما.
وزعمت بعض المصادر أن رأسها قُطع هناك، ويروي آخرون أنها تزوجت بسيناتور روماني وعاشت حياتها كأم رومانية.
أيّاً كان ما حدث لها، فقد استحوذت زنوبيا على مخيلة أجيال من الكُتاب، المفتونين بهذه الملكة القوية التي تحدَّت روما.