في زمنٍ كان دور المرأة محصوراً على القيام بأعباء المنزل وتربية الأطفال والسعي لتكوين حياة زوجية مستقرة، قامت مجموعة من النساء أُطلق عليهن اسم "حريم بيكرينغ" بترك بصمة في عالم الفلك، عبر إنشاء أكبر فهرس للنجوم التي من الممكن ملاحظتها في سماء الليل، ووضع أسس للتصنيف النجمي لا تزال تستخدم إلى يومنا هذا، فضلاً عن اكتشاف مئات السدم والنجوم الجديدة.
فمن هن "حريم بيكرينغ" أو ما بتن يعرفن بـ "الحواسيب البشرية" أو "حواسيب هافارد"، ولماذا أطلق عليهن هذا الاسم؟
من هن حريم بيكرينغ؟
بقي البروفسور إدوارد بيكرينغ في منصبه كرئيس للمرصد الفلكي التابع لجامعة هافارد قرابة 29 عاماً من 1877 حتى 1906.
وكان للعالم المخضرم إنجازات عديدة، أهمها تشكيل فريق من الحواسيب البشرية، مهمته إنشاء فهرس أو كتالوج ضخم يضم مواقع جميع النجوم الواقعة تحت أنظارنا في السماء، وتحديد شدة سطوع كل منها، والنوع الطيفي الذي تنتمي إليه.
وفي تحدٍّ للأعراف التي كانت قائمة آنذاك اختار بيكرينغ أن يكون فريقه بالكامل من النساء، البعض قال إن السبب وراء ذلك هو إيمان بيكرينغ بتفوقهن على الذكور وانضباطهن في العمل، بينما عزا آخرون ذلك لانخفاض أجور النساء آنذاك بشكل كبير مقابل أجور الرجال.
وبغض النظر عن السبب الحقيقي لاختيارهن، فقد تركن بصمة في عالم الفلك، لا يمكن لأحد إنكارها.
حريم بيكرينغ أم حواسيب هافارد؟
كان الفريق مكوناً من 80 امرأة، بعضهن خريجات فيزياء وعلم فلك، وبعضهن لسن كذلك، ولكن ما كان يربطهن جميعاً هو براعتهن في الرياضيات ودقة ملاحظتهن.
فلإنشاء الكتالوج الذي كان بيكرينغ يحلم به، نحن نحتاج إلى كمية هائلة من المعلومات عن النجوم من حولنا، وقدرات حسابية متفوقة لمعالجة وتحليل هذه البيانات.
اعتمد فريق بيكرينغ على أبرز تقنيات التصوير الفلكي التي تم الوصول إليها آنذاك، إضافة إلى تقنيات التحليل الطيفي للنجوم، واستطاع بالفعل تصنيف سماء الليل بأكملها، واكتشاف نجوم وسدم غازية جديدة لم تكن معروفة من قبل.
وتم إطلاق اسم "حريم بيكرينغ" على المجموعة كنوع من التهكم والسخرية وربما الإهانة، فلم يكن شائعاً أن تخوض المرأة آنذاك بالمجالات العلمية، ولم تكن أبحاث النساء على قلتها في ذلك العصر تؤخذ بعين الاعتبار أو الجدية.
لكن اليوم لم يعد يستخدم هذا الاسم للإشارة إلى فريق بيكرينغ النسائي، فقد بتن يعرفن باسم "حواسيب هارفارد"، ومن بين تلك الحواسيب نساء عدة برز اسمهن في عالم الفلك، أشهرهن أنطونيا موري التي اكتشفت طريقة لتقييم الأحجام النسبية للنجوم، وهنريتا ليفيت، التي تركت إرثاً هاماً حول طبيعة النجوم المتغيرة، بالإضافة إلى نساء كن علامة فارقة في علم الفلك مثل ويليامينا فليمينغ وآني جمب كانون.
من الخدمة في المنازل إلى مرصد هافارد الفلكي
بعد أن هجرها زوجها تاركاً إياها مع ابنها الصغير بلا مأوى، اضطرت ويليامينا فليمينغ أن تعمل كخادمة في البيوت، لكن لحسن حظها أنها كانت خادمة البروفسور إدوارد بيكرينغ.
عندما شرع بيكرينغ في تنفيذ مشروعه "حواسيب هافارد"، كان فريقه يتكون من النساء بالكامل باستثناء مساعده، فقد كان ذكراً.
بعد فترة وجيزة طرد بيكرينغ مساعده لقلة كفاءته وعدم نباهته، وقد كان ذكياً عندما اختار ويليامينا بديلاً عنه، بعد أن أشادت زوجته كثيراً بنباهتها وحسها الإداري وذكائها، وفعلاً قدمت ويليامينا بنهاية المطاف مساهمات كبيرة في علم الفلك، وبقيت تعمل في مرصد هافارد الفلكي مدة 34 عاماً.
أشرف بيكرينغ على تعليم ويليامينا أساسيات التحليل الطيفي للنجوم، وبفضل نباهتها استطاعت الذهاب إلى أبعد من ذلك، فقد اكتشفت ويليامينا أثناء عملها في مرصد هافارد الفلكي 59 سديماً غازياً، من بينها سديم رأس الحصان، و310 نجوم متغيرة جديدة.
كما أنها ابتكرت نظاماً جديداً لتصنيف النجوم وفقاً للكمية النسبية من الهيدروجين التي لوحظت في أطيافها، وبقي هذا النظام متبعاً إلى أن طورته آني جمب كانون، ككمبيوتر بشري آخر من كمبيوترات هارفارد.
آني جمب كانون
يعتبر اسم آني كانون واحداً من ألمع الأسماء في عالم الفلك، فقد ابتدعت كانون أثناء عملها في فريق كمبيوترات هارفارد نظاماً مبتكراً لتصنيف النجوم، لا يزال معتمداً حتى يومنا هذا.
إذا أردنا تبسيط النظام الذي اعتمدته آني، نستطيع أن نقول إنه نظام قائم على تصنيف النجوم عبر إعطائها واحداً من الأحرف التالية تبعاً لدرجة حرارتها: O،B ، A، F،G ،K ،M حيث O هي النجوم الأكثر سخونة وMهي الأبرد، (علماً أن الشمس هي ضمن الصنف G).
كما أنها ألَّفت جملة لتساعد الفلكيين على تذكر تتابع هذه الحروف، وهي بالإنجليزية Oh! Be A Fine Girl – Kiss Me!
وخلال حياتها، صنّفت أطياف ما يزيد عن 350000 نجم (كما يُقال عنها إنها كانت تستطيع أن تنظر إلى أي طيفٍ نجمي وتصنفه خلال ثلاث ثوانٍ فقط).
لمن يعود الفضل في النهاية؟
بالرغم من أن جهود "حواسيب هارفارد" كانت ركيزة صلبة لعلماء الفلك الذين حاولوا تصنيف النجوم من بعدهن، إلا أن إدوارد بيكرينغ نال فضلاً أكبر بكثير مما نلن صاحبات الجهد الحقيقي، حتى إن فوهات وحفراً سُميّت باسمه على كلٍّ من القمر والمريخ، بينما بالكاد يعرف العالم من هن حواسيب هارفارد.
أيضاً تم حذف أسماء العديد من المساهمات من الفريق، اللواتي قدمن اكتشافات مهمة في علم الفلك من الأوراق البحثية، ونسب الفضل لبيكيرينغ وحده.
كما أن إنجاز العالمة "كانون" الذي لا نزال نعتمده حتى يومنا هذا سُمي بـ"نظام هارفارد للتصنيف الطيفي" ولم يسم نظام "كانون".