مشروع النهر الصناعي العظيم الذي اقترحه معمر القذافي في العام 1983، لبناء نهر ضخم في وسط الصحراء الليبية وبدأ بتنفيذه فعلاً قبل أن يثبت فشله، لم يكن المشروع المائي المجنون الأول من نوعه، فقد كان لدى المهندس المعماري الألماني هيرمان سورجيل خطة أكثر جنوناً تقتضي بتجفيف البحر المتوسط ضمن مشروع سماه "أتلانتروبا"!
لكن، مع وجود فارق مهم بين المشروعين، ففي حالة النهر العظيم صرح المهندسون الفرنسيون المشرفون على المشروع من البداية عن عدم إمكانية تنفيذه، بينما وضع سورجيل خطة هندسية قابلة للتنفيذ لتجفيف البحر المتوسط ليربط بهذه الطريقة أوروبا بالقارة الإفريقية، العائق كان فقط الموارد البشرية والتكاليف الضخمة للمشروع، بالإضافة طبعاً إلى عدم حصوله على موافقة الدول المعنية بمشروع كهذا.
ما هو الهدف من أتلانتروبا وتجفيف المتوسط ؟
في العام 1928 اقترح المهندس الألماني هيرمان سورجيل مشروعاً هندسياً ضخماً أطلق عليه اسم "أتلانتروبا"، وبالرغم من عدم تنفيذ هذا المشروع إلا أنه اعتبر من قبل كثيرين إضافة مهمة في التنظير الهندسي للمشاريع الهندسية العملاقة.
كانت أوروبا في عشرينيات القرن الماضي لا تزال تحت تأثير النتائج المدمرة للحرب العالمية الأولى، وكان هاجس اندلاع الحرب من جديد حاضراً نظراً لهشاشة العلاقات الدبلوماسية الدولية وبسبب تضخم المشاكل الاقتصادية حول العالم خصوصاً مشكلة تأمين موارد الطاقة.
في تلك الفترة ازدهرت بين النخب الثقافية والعلمية الأوروبية أفكار مشاريع مستقبلية تهدف إلى ضمان السلام العالمي وإيجاد حلول مستدامة لمشكلة التنافس حول موارد الطاقة بين الأوروبيين.
وتندرج فكرة "أتلانتروبا" ضمن موجة تلك المشاريع، فقد كان سورجيل يطمع بالطاقة المستدامة الضخمة التي قد يستطيع توليدها من مشروع كهذا وبتكاليف منخفضة، إضافة إلى خلق فرص عمل كبيرة وربح أراض إضافية قابلة للاستغلال تخفف من التنافس التوسعي للقوى الأوروبية.
يستغرق 10 سنوات ويتطلب قرابة المليون عامل
وفقاً للمشروع الذي قدمه هيرمان سورجيل فإن الإنشاء المركزي للمشروع عبارة عن سد كهرومائي، بطول 35 كيلومتراً وقاعدة بعرض 2.5 كلم، يغلق مضيق جبل طارق، والذي كان سيوفر طاقة كهرومائية تتجاوز 50 ألف ميغاواط، أي ما يعادل إنتاج 31 مفاعل EPR.
كان السد سيؤدي إلى انخفاض مستوى البحر الأبيض المتوسط بـ 200 متر (600 قدم) بوتيرة 80 سم سنوياً خلال قرنين من الزمن، وإلى إضافة 600 ألف كلم² من الأراضي إلى اليابسة، أي ما يعادل تقريباً مساحة فرنسا، خصوصاً في البحر الأدرياتيكي وشمال إفريقيا وبحر إيجه.
إضافة إلى السد كان المشروع يتضمن أيضاً إنشاء برج طوله 400 متر ونظام معقد من القنوات بين ضفتي المضيق، المرتبطة بمراكز توليد الطاقة الكهرومائية.
حسب تقديرات سورجيل، كان بناء السد سيستغرق 10 سنوات بتعبئة عمالة تتراوح بين 200 ألف ومليون عامل.
الإنشاءات الفرعية للمشروع
يتطلب المشروع أيضاً بناء الإنشاءات الفرعية التالية:
· سد عبر مضيق الدردنيل وذلك لمنع مياه البحر الأسود من الوصول للبحر المتوسط
· سد يصل جنوب شبه الجزيرة الإيطالية وصقلية وتونس لتوفير طريق وفصل البحر الأبيض المتوسط إلى حوضين: حوض غربي وحوض شرقي واستغلال فرق مستوى ارتفاع الحوضين لتوليد الطاقة الكهرومائية.
· سد على نهر الكونغو على مستوى رافده كاساي، يشكل بحيرة عملاقة لتغذية منطقة حوض تشاد والصحراء الكبرى وإنشاء خطوط ملاحة نهرية تصل إلى داخل إفريقيا.
· تمديد قناة السويس تدريجياً فوق الأراضي المجففة للحفاظ على الاتصال بالبحر الأحمر.
· إنشاء خطوط سككية قارية تصل بين برلين وروما وكيب تاون في جنوب إفريقيا.
· إنشاء ثلاثة خطوط جهد عالي تصل بين الإنشاءات الكهرومائية وإفريقيا وأوروبا: الخط الأول يمر عبر مضيق جبل طارق، والخط الثاني يحاذي الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط عابراً مصر وفلسطين وسوريا ليصل إلى أوروبا عبر البحر الأسود ودلتا الدانوب.
· إنشاء أنظمة من السدود الترابية، من تصميم المعماري الألماني بيتر بيرنز، للحفاظ على بعض الموانئ التاريخية كالبندقية وجنوى ومارسيليا.
تخصيص وطن لليهود كان من الفوائد المرجوة من المشروع
كان سورجيل يتوقع الحصول على الميزات التالية من مشروع ضخم كهذا:
· قدرة طاقية كهرومائية تقدر بـ 110 ألف ميغاواط، نصفها تقريباً من توليد سد مضيق جبل طارق.
· ربح مساحات أراضي تتراوح بين 600 ألف ومليوني كلم².
· ربح أراضي إضافية على الساحل الفلسطيني مخصصة لإنشاء دولة يهودية.
· ربح أراضي قابلة للاستغلال الفلاحي في مجال البحر الأدرياتيكي تكفي لتغدية 150 مليون نسمة.
· إنشاء نيل جديد يعبر الصحراء الكبرى ويصب في تونس، يصل بين حوضي تشاد والكونغو يمكن من استغلال أراضي فلاحية جديدة.
تم تأليف سيمفونية باسم أتلانتروبا
بالرغم من الانتقادات التي وجهت للمشروع كونه حلماً يوتوبياً لا أكثر، إلا أنه لاقى رواجاً في العديد من البلدان، حتى أن صداه وصل إلى جريدة نيويورك تايمز التي نشرت مقالاً في الموضوع.
كما تمت دعوة سورجيل لعرض المشروع في المعرض العالمي لبرشلونة إكسبو في العام 1929.
وتم بعد ذلك إنشاء مؤسسة خاصة بالمشروع نظمت العديد من العروض والمؤتمرات في أهم المدن الألمانية (ميونيخ، هامبورغ، إيسين، برلين ودورتموند)، إضافة إلى إصدار أبحاث وكتب ومقالات وأفلام حول المشروع، بل وحتى أنه تم تأليف سمفونية موسيقية باسم أتلانتروبا.
لماذا فشل مشروع أتلانتروبا؟
ساهم فوز النازيين في الانتخابات الألمانية لسنة 1933 في إضعاف المشروع حيث فشلت محاولات سورجيل إقناعهم بجدواه لسببين رئيسيين: عدم تقبل الرايخ الثالث الألماني لفكرة المشاريع التعاونية مع الدول الأوروبية الأخرى إضافة إلى تبني شخصيات يهودية للمشروع، كالمعماري إريخ مينديلسون، والتي كانت ترى في المشروع فرصة لمضاعفة مساحة أرض فلسطين وحل مشكلة إنشاء الدولة اليهودية.
وبعد الحرب العالمية الثانية، فقد المشروع أهميته خصوصاً مع ظهور الطاقة النووية ونهاية الاستعمار.
وفي النهاية، سيكون لمشروع كهذا نتائج كارثية على الموانئ التاريخية، كما أنه طموح أوروبي صرف يتجاهل اختيارات شعوب الضفة الجنوبية ويمثل تجسيداً لقارة لا تزال تمارس سياسة استعمارية وتتمسك بالمركزية الأوروبية في تصور التقدم والرخاء الاقتصاديين.
نتائج كارثية كانت قد تنتج عن المشروع
في حال تم تنفيذ مشروع أتلانتروبا، وحتى لو تحققت الفوائد التي كان يرجوها سورجيل، سيكون هناك بالمقابل عواقب كارثية لمشروع كهذا.
فلم يأخذ سورجيل بعين الاعتبار مصير المجموعات الحيوانية ومخاطر التغيير الفجائي للبنيات الإيكولوجية في منطقة المتوسط، كما أن الأراضي التي سنكسبها على حساب البحر كانت لتصبح مناطق شبه صحراوية لأن تقليص المساحة البحرية سيؤدي إلى تقلص السحب المطرية وارتفاع تدريجي لدرجة الحرارة في المنطقة، ناهيك عن نسبة الملوحة المرتفعة في الأراضي المجففة والتي ستعيق حتماً الأنشطة الزراعية.
أيضاً سنفقد مساحات شاسعة من الغابات الاستوائية بسبب الإنشاءات المائية في حوضي الكونغو وتشاد، وسيتحول مناخ مجموعة من دول أوروبا الجنوبية إلى شبه صحراوي مثل تركيا واليونان وفرنسا وإيطاليا والبرتغال وبعض دول البلقان.
عموماً، وبالرغم من اندثار المشروع وعدم وجود إمكانية لتنفيذه، إلا أنه لا يزال حياً في المتحف الألماني للعلوم والتقنيات في ميونيخ، إذ يحتفظ المتحف بكل الأرشيف المتعلق بمشروع أتلانتروبا من خرائط وتصاميم ودراسات تقنية، إضافة إلى كل ما روج حول المشروع في الصحافة والإعلام المرئي والمسموع.