يبدو للقارئ من الوهلة الأولى أن عنوان هذا الكتاب صادم ومثير، فيدق ناقوس الخطر وصفارات الإنذار، يتساءل القارئ: هل خان محمد الماغوط وطنه فعلياً؟ أليست فكرة خيانة الوطن عند أي مجتمع فكرة صادمة وقاسية، وعلى غير الخونة الحقيقيين الذين يخونون أوطانهم سراً، لكن عند محمد الماغوط كانت فكرة خيانة الوطن معكوسة على عكس عنوان الكتاب تماماً، هو كان يريده وطناً مختلفاً عكس ما عاشه.
لقد أحب محمد الماغوط وطنه، كما وصفه في كلماته: ثم إنني أحب هذا الوطن من محيطه إلى خليجه. فأينما كنت، ما إن أقرأ اسمه في جريدة، أو أسمعه في إذاعة حتى أتجمد كنهر سيبيري، كعريف في حضرة جنرال، إنني أحبه، قدروا ظروفي وعواطفي. فيه قرأت أول قصة لياسين رفاعية، وسمعت أول أغنية لفهد بلان، وقرأت أول افتتاحية ترد على كل المخططات الأجنبية في المنطقة، تبدأ ببيت للفرزدق وتنتهي ببيتين للأصمعي. فيه سمعت أول مرة اسم: قضية فلسطين، عائدون، حرب التحرير الشعبية، حرف الاستنزاف، الكيلومتر 101، مرسيدس 220 إمبريالية، استعمار إنسبستر، ديبون، فيزون، بيار كاردان، جنرال إلكتريك، جنرال سيالسفيو.
وهنا يتلقى القارئ كلماته على طبق ساخر، في إحدى صفحات الكتاب: وصرخت زوجتي بحدة: مشكلتك أنك تسخر من كل شيء في هذه المنطقة. فقلت لها: بالعكس، مشكلتي أنني أحترم كل كيس قمامة، حتى قمامتها، بدليل، وأنا عائد في آخر الليل سقط علي شيء عرفت أنها زبالة مدعومة فلم أحتج. ولم أنفضها حتى عن رأسي وثيابي.
كانت تجربة محمد الماغوط قاسية في الوطن العربي، لقد ترعرع على أنغام شعارات وأفكار تزداد عظمتها مع ازدياد عظمة أصحابها، لم يخلع تلك الشعارات إلا عندما أيقن أنه شاخ وهرم وأضاع أروع سني عمره هباء كما قال. وكأنه يقول: إذا كانت خيانة الوطن هي بالامتناع عن إلقاء الشعارات وتعظيم السياسيين والتصفيق لهم، بينما الفقير يشكو القلة في كل شيء، فسأخون وطني بالامتناع عنها حتماً.
لربما كانت حروفه وكلماته لاذعة وساخرة ولكنها مليئة بحرقة المضحك المبكي، قلم ممزوج بواقع من التخاذل العربي، والفكاهة الحارقة والحزن اللاذع، هوية عربية باتت مجرد اسم، ووطننا العربي يضيع لحساب إسرائيل يوماً بعد يوم. هل يوجد في وطننا العربي من يراهن على عدم خيانة أي حاكم عربي لبلده؟ فبمجرد أننا نرى التطبيع مع إسرائيل مباحاً وعلى عينك يا تاجر، والقضية الفلسطينية أصبحت كرة تتدحرج على طاولات المفاوضات فقط للتسلية أو ليقضي السياسيون أسبوعاً سياحياً بالمجان، فاعلم أننا في مزبلة عامة.. وعلى الدنيا السلام.
يحاول محمد الماغوط الصراخ في إحدى صفحاته فيقول: أيها العرب، أستحلفكم بما تبقى في هذه الأمة من طفولة وحب وصداقة وأشجار وطيور وسحب وأنهار وفراشات. أستحلفكم بتحية أعلمها عند الصباح وإطراقة جبينها عند المساء، لقد جربتم الرهاب سنين وقروناً طويلة وها أنتم ترون إلى أين أودى بشعوبكم. جربوا الحرية يوماً واحداً لتروا كم هي شعوبكم كبيرة وكم هي إسرائيل صغيرة.
كتاب يمثل الواقع العربي بسوداويته الساخرة والحزينة في آن واحد، يشعر القارئ لوهلة أنه يحتاج أن يقرأ ما سبق أو ما فاته من ماضٍ وتاريخ عابر قبل أن يصاب بصدمة واقعه المتستر خلف قضبان جلاديه.
منع هذا الكتاب من التداول في أكثر من بلد عربي، مما جعل القارئ العربي يقبل أكثر على قراءته ويجعله أكثر فضولاً لمحتواه، وخصوصاً أن عنوانه مثير للجدل. على العلم أن محمد الماغوط لم يستثن أي بلد عربي في كتابه، شمل المجتمع العربي كله في كلماته وسخريته، لقد كان محمد الماغوط يريد تسمية كتابه، "نفحات من المزبلة العربية" فكان "سأخون وطني"..هذيان في الرعب والحرية من المؤكد أن محمد الماغوط لم يخن وطنه ولم يخن شعبه ولا أمته، لكن هناك حتماً مأساوية وصل إليها المواطن العربي تجعل خيانة الوطن مشروعة مجازاً وليس بشكل حقيقي.
وأخيراً.. ما كتبه محمد الماغوط جزء بسيط جداً من واقع مرير وقاهر ومرعب، بطريقته الساخرة والمؤلمة، كغيره من الشعراء الذين عانوا من ولائهم لأوطانهم وكانت حياتهم مليئة بحرقة المضحك المبكي. إنها شهادة فاجعة على مرحلة معتمة من واقع العرب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.