في الأيام الأخيرة من يونيو/حزيران من العام 2002، ماتت السيدة التركية "المدينة المنورة بيرجان"، بعد رحلة علاج طويلة من مرض الكلى، قضتها في مستشفيات مدينة إسطنبول الحكومية، لكن وفاتها سلَّطت الضوءَ على واحدة من أهم الأزمات التي كانت تواجه المحجبات آنذاك، وتحوّل موتها إلى قضية رأي عام.
عانت بيرجان البالغة من العمر 71 عاماً آنذاك من مرض سرطان الرحم والفشل الكلوي، ما اقتضى أن تخضع لجهاز غسيل الكلى بشكل دوري، وكانت بيرجان تحمل بطاقة صحية "شهادة تأمين صحي" مقدَّمة من صندوق معاشات إسطنبول، عليها صورة شخصية كانت سبب وفاتها.
ففي الصورة الموضوعة على البطاقة كانت السيدة التركية المسنَّة ترتدي غطاءً للرأس. ووفقاً للقانون حينها كانت إدارة شؤون الموظفين في تركيا قد أجبرت العاملين في قطاع "الجامعات الطبية"، الذي خضعت له معظم المستشفيات الحكومية، على رفض التعامل مع المرضى الذين يحملون شهادات طبية بصور لا تكشف رؤوسهم.
حاول أبناء "المدينة المنورة" الحصول على استثناء، إذ كانت والدتهم في مراحل صحية متدهورة، لكن دون جدوى! فقد كانت التعليمات صارمة وواضحة بالرفض، فلم يتمكنوا من استكمال تقرير اللجنة الطبية للمضي في إجراءات علاجها وإخضاعها لجلسات الغسيل الكلوي.
دعوني أرحل.. أريد أن أموت
كانت حالة السيدة التركية الصحية لا تسمح لها بالذهاب إلى مصور لالتقاط صورة جديدة دون حجاب، إذ كانت بالكاد تتحرك، فضلاً عن اعتبارها أن إجبارها على خلع الحجاب بمثابة إهانة لها، رغم أن رأسها كان خالياً من الشعر، بعدما سقط كله بسبب مرض السرطان، لكنَّها مع هذا رفضت. وقد قال نجلها مصطفى لصحيفة Hurriyet التركية في لقاء سابق، إن والدته قالت: "لا أريد أن أرتدي شعراً مستعاراً، دعوني أرحل، أريد أن أموت".
لجأ أولاد بيرجان إلى الحلِّ الأخير، فذهبوا إلى مصور حاول تغيير صورتها باستخدام برنامج Photoshop، فاستبدل حجابها بما يشبه الشعر المستعار، لكن في اليوم الذي تسلَّم فيه أبناؤها الصورة كانت قد فارقت الحياة.
ألقى موت "المدينة المنورة" الضوءَ على التمييز ضدَّ المحجبات آنذاك، وأثار نقاشاً مجتمعياً حول منعهن من دخول الأماكن العامة والمستشفيات، ومن نيل حقوقهن في التعليم والصحة.
شكوى جنائية ضد المسؤولين
تقدَّم أقارب السيدة التركية بدعوى قضائية ضدَّ وزارة الصحة، تحملهم فيها المسؤولية عن وفاة والدتهم، واتهموا رئيس جامعة إسطنبول كمال أمداروغلو ومساعده، ووزير الصحة عثمان دورموس، ووزير العمل والضمان الاجتماعي ياسار أوكويان بقتل "المدينة المنورة"، ما أدى إلى صدور قرار برفع الحظر ضد المحجبات، في حال رغبن العلاج في المستشفيات الحكومية.
قضية الحجاب.. أزمة عمرها طويل
بدأت أزمة الحجاب بشكل فعلي في مطلع ثمانينات القرن الماضي، بعد إصدار قانون رسمي عقب انقلاب 1980 الذي قاده الجنرال كنعان إفران، بمنع المحجبات من العمل في مؤسسات الدولة ودخول المدارس والجامعات.
وفي العام 1987، أُجريت انتخابات فازت فيها حكومة رئيس الوزراء تورغوت أوزال، ما أسفر عن إجراء بعض التعديلات على قانون منع المحجبات من العمل، حيث سمح لهنَّ بالعمل وارتداء الحجاب كمظهر ديني، شريطة ألا يتعدَّى كونه يغطي الرأس والرقبة، وهو القرار الذي أُلغي مجدداً بعد أيام من إصداره، بحجة الحفاظ على علمانية الدولة.
وفي فبراير/شباط 1997، تعرَّضت المحجبات لواحدة من أقسى موجات المنع، بعد انقلاب 1997، إذ أُغلقت العديد من مدارس الأئمة والخطباء الدينية، وطُردت المحجبات من الجامعات والعمل، وتعرَّضن للعنف والاعتداءات الجسدية من قبل قوات الجيش.
استمرَّ التضييق على المحجبات حتى مطلع الألفية الثانية، ومع صعود حزب "العدالة والتنمية" إلى الحكم، بدأ التخفيف من موجات القمع بشكل نسبي، وفي العام 2010، طرحت الحكومة استفتاء شعبياً ألغى قانون منع الحجاب، بل ورفع قضايا جنائية ضد الشخصيات التي ارتكبت جرائم ضد المحجبات خلال انقلاب 2017.