في شهر يوليو/تموز من عام 1944، كانت الشرطة الألمانية تقتحم منزل الجاسوسة ماري مادلين فوركاد بينما كانوا يحاولون إلقاء القبض على جواسيس المقاومة الفرنسية.
على جانب من غرفتها طرحوها أرضاً، ونهبوا شقتها بحثاً عن شخص مهم، عضو في خلية المقاومة المعروفة باسم "التحالف"، ليكتشفوا بعد دقائق من دخولهم، أن زعيم الخلية الذي يبحثون عنه لم يكن إلا فوركاد نفسها.
لم يتخيل فريق الشرطة الألمانية أن امرأة تتزعم خلية جاسوسية، لم يكن نشاطها قاصراً على التجسس على ألمانيا وحدها، ورغم الكتابات المتعددة التي سلطت الضوء على جاسوسية النساء في الحرب العالمية الثانية. لكن قصة فوركاد تحمل طابعاً مميزاً.
أكبر شبكة جاسوسية.. وأكثرها صموداً
ووفق مجلة مجلة HistoryNet الأمريكية، نشأت فوركاد في أسرة ثرية وعاشت لفترة طويلة حياة مستقرة، ولم تولد متمردة، لكنها صُدمت في العديد من أصدقائها وتعاونهم مع النازيين الذين احتلوا فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية.
فأبدت استعدادها لأن تكون تحت دائرة الخطر، لتحقق مبادئها في التحرر، خاصة بعدما أصبحت في موقع القيادة لخلية التحالف التي كانت تقاوم تحت لوائها بعد إلقاء القبض على لوستوناو لاكاو مؤسس الخلية.
في الفترة من عام 1941 إلى 1945، قادت مادلين أكبر شبكة جاسوسية وأطولها صموداً في فرنسا المحتلة، وبالرغم من مساهمتها الضخمة في المقاومة الفرنسية، لم تكن فوركاد بين من كُرّموا في نهاية الحرب العالمية الثانية؛ إذ أدّى التنافس السياسي القديم بين شارل ديغول، ومؤسس خلية "التحالف"، وضابط المخابرات الأسبق جورج لوستوناو لاكاو، إلى تشويه الشبكة سياسياً.
عقب سقوط فرنسا بيد ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، انتخبت حكومة فيشي، وكانت فرنسا فيشي مصطلح "للدولة الفرنسية"، والتي كانت أشبه بدمية في يد القوات الألمانية.
قسمت اتفاقية الهدنة "الفرنسية الألمانية" فرنسا لمنطقتين: الأولى خاضعة للسلطة العسكرية الألمانية المباشرة، والمنطقة الثانية تبقى للحكم والسيادة الفرنسية لكنه كان حكماً شكلياً.
تمردت فوركاد على الحكم الفيشي، وقررت النضال من أجل فرنسا التي أرادتها، متحررة من السيادة الألمانية.
تحت إمرة فوركاد، تمكّن أعضاء الخلية من اعتراض المكالمات، وسرقة الوثائق من المخابرات الألمانية، حتى أنهم قدموا خريطة بطول 55 قدماً لشواطئ نورماندي توضح تفاصيل التحصينات الألمانية، وهي الوثيقة الحاسمة في وضع استراتيجية عملية أوفرلورد، وهي عملية غزو شمال غرب أوروبا في الحرب العالمية الثانية من قبل قوات الحلفاء اشتركت فيها قوات إنجليزية وفرنسية وأمريكية.
لم تولد متمردة.. لكن الصدمة ألجمتها
كتبت ليني أولسون، وهي كاتبة أمريكية، كتاب Madame Fourcade's Secret War تناولت فيه قصة حياة مادلين، أظهرت فيه فوركاد نجمة بين كوكبة من تحالف المقاومة البالغ عدده 3000 عضو.
يمتاز الكتاب بالإثارة ويحكي عن الخيانات، والمؤامرات، واستراتيجيات الهروب السريعة التي اتبعتها، والهويات السرية التي حملتها لتساعدها على الانتقال؛ إذ كانت تتخفى الخلية بالكامل تحت أسماء حيوانات رمزية، فمثلاً كانت تعرف فوركاد بالقنفد المتواضع القوي.
يعرض الكتاب ملخصاً للعملاء الرئيسين في خلية التحالف، وكأنها لوحة بحثية مرسومة بعناية لخلية التجسس وقائدتها التي تردد عملاؤها كثيراً من العمل تحت إمرة امرأة.
تمكنت فوركاد من كسب ثقة حتى أشد المنتقدين بفضل اتزانها الشديد وتضحيتها بالنفس واتخاذ القرارات الموثوقة حتى ماتت في عام 1989، وبالرغم من نشرها مذكرات لبطولاتها، لم تُسلط الأضواء على قصتها إلا من خلال كتاب أولسن.