قال القائد الأمريكي بيوتي مارتن مخاطباً رجاله في صباح يوم 6 ديسمبر/كانون الأول عام 1941 في قاعدة كانوهي البحرية الجوية في شبه جزيرة موكابو، الواقعة على بعد أقل من 15 ميلاً (24 كيلومتراً) شرق الجانب الشمال الشرقي لميناء بيرل هاربر "على الأرجح أنتم أقرب ما يكون للحرب، بدون أن تكونوا فعلياً في حرب. أبقوا أعينكم وآذانكم مفتوحة، وكونوا على تأهب كل لحظة".
أحدهم أبقى عينيه مفتوحتين على اتساعهما في هذا اليوم، هو الجاسوس الياباني تاكيو يوشيكاوا. راقب عن كثب أسطول الولايات المتحدة بالمحيط الهادئ في المرسى بميناء بيرل هاربر جنوب جزيرة أواهو، في وقت متأخر من الظهيرة من نقاط مراقبة ذات أفضلية في مرتفعات آيا ومهبط مدينة بيرل.
ولاحقاً، أرسل في اليوم نفسه تقريراً مشفراً إلى طوكيو يذكر أن جيش الولايات المتحدة قد طلب معدات للمناطيد الحاجزة الدفاعية، لكن لم يظهر أيها في المشهد، وأنه يرى أن شبكات الطوربيد على الأرجح ليست في أماكنها لحماية السفن الحربية الراسية في بيرل هاربر.
وأضاف في إشارة إلى أن الوقت الملائم للهجوم يأزف: "أتصور أن هناك فرصة معقولة لهجوم مباغت".
في هذه الأثناء، تجادل البحارة الأمريكيون حول رسالة القائد مارتن الكئيبة التحذيرية التي قالها مبكراً ذلك اليوم، واستخف عدد منهم بالقدرات الذهنية لليابانيين، خصوصاً قدرتهم على التعامل مع الطائرات سريعة الحركة.
حتى أن بعضهم زعم أن أي أفعال عدائية من قبل اليابان ضد الولايات المتحدة ستسحق في خلال أسبوعين.
لكن في خلال 24 ساعة، سيكون هؤلاء الرجال ومواطنوهم الأمريكيون في بيرل هاربر في معركة للنجاة بأرواحهم في مواجهة موجتين قادمتين من قاذفات القنابل والمقاتلين اليابانيين.
في خلال 90 دقيقة من الهجوم الأول في صبيحة يوم 7 ديسمبر/كانون الأول، أغرقت اليابان أربع سفن حربية، ودمرت أربعاً من السفن الكبيرة، وثلاث طوافات، وثلاث مُدمرات، وأُرسلت حوالي 200 طائرة أمريكية إلى ساحة الخردة. والأسوأ، قُتل أكثر من 2400 أمريكي، وجرح أكثر من 1175 شخصاً في هذا الهجوم المفاجئ.
غارة على محطة كانوهي الجوية للقوات البحرية
كان المتواجدون في محطة كانوهي الجوية للقوات البحرية من أوائل من واجهوا هجمة اليابان، وفي صباح يوم الأحد ذاك. جاءت الطائرة الميتسوبيشي الرشيقة طراز "A6M Zeros" في الساعة 7:48 صباحاً، وقصفت طائرة خدمات صغيرة وانتشرت فوق القاعدة مطلقة النيران بسرعة شديدة.
اتصل الضابط المسؤول في ذلك اليوم بمحطة بيلوز فيلد التي تقع على مقربة من بيرل هاربر، يطلب المساعدة، لكن رسالته لم تؤخذ على محمل الجد.
اتصل سام أواي متعهد كانوهي بالقاعدتين الجويتين بيلوز وهيكام، لكن هذه التحذيرات أيضاً قوبلت بالتكذيب.
كان القائد مارتن، في سكنه، يتجرع كوباً من القهوة ويعد مشروب الشوكولاتة الساخنة لابنه البالغ من العمر 13 عاماً، عندما أبلغه الشباب برؤية الطائرات اليابانية تناور في السماء.
فور أن رأى مارتن بنفسه شعار الشمس المشرقة -شعار اليابان- سرعان ما استبدل زي النوم بزيه العسكري واندفع بالسيارة، مصدراً صريراً في المنطقة السكنية، التي كانت لا تزال هادئةً، تمكن مارتن من التوقف جوار منطقة قيادته، وركض في اتجاهها وسط وابل من طلقات الأعيرة النارية.
كانت الطائرة الأولى المتوقفة مشتعلة بالفعل عندما وصل مارتن إلى كانوهي، وسرعان ما انضمت قاذفات القنابل اليابانية للمعركة.
ويقول في هذا أنه كان فخوراً باستجابة رجاله رغم أن الكثير منهم كانوا مستجدين في الخدمة العسكرية، وأشار "لم يكن هناك ذعر، الجميع انخرطوا مباشرة في العمل لصد الهجوم وأداء مهامهم".
لسوء الحظ، لم يكن هناك أسلحة مضادة للطائرات في كانوهي. فأطلق البحارة وجنود البحرية (المارينز) النيران من مسدساتهم وبنادقهم على الطائرات التي حلقت على مستوى منخفض قريب من الأرض لكن لم ينجحوا في إصابتها.
وبمجرد اختفاء الموجة الأولى من الطائرات المهاجمة، اندفع الرجال إلى حظائر الطائرات. وبدأ مسؤولو الذخائر بإصدار المسدسات والبنادق الآلية وإخراج الذخائر والعتاد من المخازن المغلقة وتوزيعها.
جون فن.. يحارب الطائرات منفرداً
وضع كبير الضباط المسؤولين عن المدفعية الجوية جون فن بنادق آلية بقطر 30 وقطر 50 على مدرج موقف طائرات "كونسوليتيد بي بي واي كاتالينا" وبدأ مجابهة مقاتلات "زيرو" اليابانية عندما مشطت سماء كانوهي.
تنقل فين بين السلاحين لكنه أمضى أغلب وقته مع البندقية الآلية قطر 50، وأطلق النيران وساعده بحارة كانوا يجددون له الذخائر.
دمرت نيران فن المستمرة العديد من مقاتلات "زيرو". ولم يكن يعلم أحد على وجه اليقين، أكان فن هو من يطلق كل هذا الوابل النار، أم شخص آخر، وهناك احتمالات لأن يكون ربما ضابط ذخيرة يسمى ساندس، هو من أطلق الأعيرة التي أصابت طائرة قائد الرف الملازم فوساتا إيدا.
عندما انتهى القتال في كانوهي، كان اليابانيون قد دمروا 33 طائرة من طراز "كونسوليتيد بي بي واي كاتالينا" وقتلوا 19 رجلاً في الخدمة العسكرية، وأحدثوا ضرراً جسيماً بالمنشأة. ومع المخاطرة الكبيرة التي فعلوها، عانى اليابانيون من خسائر قليلة إثر الهجوم الجريء على معقل أسطول الولايات المتحدة في المحيط الهادئ.
تاكيو يوشيكاوا: الجاسوس الياباني في بيرل هاربر
يعود كثير من الفضل للجواسيس من أمثال يوشيكاوا، وهو ملازم احتياط في البحرية يبدو صغير السن وكان قد وصل هاواي منذ 9 أشهر فقط.
عينته وزارة الخارجية اليابانية ليكون ذلك غطاءً لحقيقة مهمته، ومنحته اسماً مستعاراً، فقد كان يعمل حقاً لصالح البحرية الإمبراطورية اليابانية.
كان يقدم تقارير مستمرة ومفصلة عن مستجدات عمليات انتشار وإيفاد القوات البحرية الأمريكية، وعمليات الوصول والمغادرة من ميناء بيرل هاربر، النقطة المركزية لعمليات البحرية الأمريكية في المحيط الهادئ. كان يوشيكاوا حريصاً بدقة، فلم يحمل كاميرا، ولا خرائط، ولا مستندات، ولم يدون أبداً أي ملاحظات عما يراه في جولاته في هاواي.
بطرق عديدة كان يوشيكاوا هو الرجل الأمثل للمهمة. لديه خلفية قوية عن البحرية، إذ تخرج عام 1933 في الكلية البحرية اليابانية، وفي برامج الطوربيد والمدفعية والطيران في القوات البحرية الإمبراطورية اليابانية.
عمل أيضاً ضابط تشفير على متن طرادة. عمل بعد ذلك لثلاث سنوات في طوكيو في القسم المعني بالشؤون البريطانية بالبحرية الإمبراطورية اليابانية، قبل أن يُبدي اهتماماً بالعمل في الخارج عميلاً للبحرية اليابانية. أدى ذلك لتعيينه في هاواي ليعمل لصالح وزارة الخارجية كتمويه.
لم يحظ يوشيكاوا بحصانة دبلوماسية، ولم تكن هناك علاقة رسمية بينه وبين البحرية الإمبراطورية اليابانية عندما وصل هاواي. وإلا لكان ضباط الاستخبارات ومكافحة التجسس الأمريكان اكتشفوا أمره فوراً. ناغاو كيتا، القنصل الياباني الجديد في هاواي، وأوكودا، نائب القنصل، الذي نفذ بعض أعمال التجسس سابقاً في هاواي، هما فقط من كانا على علم بدور يوشيكاوا الحقيقي في إمداد اليابان بمستجدات البحرية الأمريكية.
هاري تومبسون جندي إداري من الدرجة الأولى
شُددت الإجراءات الأمنية في أمريكا قبل وصول يوشيكاوا، جزئياً بسبب تدهور العلاقات بين البلدين. تدهور العلاقات كان نتيجة العدوان الياباني المستمر على الصين ومخاوف من تحركات مستقبلية محتملة ضد مناطق محل اهتمام الغرب مثل هونغ كونغ وسنغافورة وماليزيا والهند الشرقية الهولندية الغنية بالنفط.
نبه إلى وقوع حادثتي تجسس لصالح اليابان في الأراضي الأمريكية في الثلاثينيات الولايات المتحدة. وشملت إحدى الواقعتين جندياً يقوم بأعمال مكتبية في البحرية الأمريكية من الدرجة الأولى يدعى هاري تي. تومبسون، كان سُرِّح من الخدمة العسكرية لمشكلات أخلاقية.
في نهايات عام 1934، تمكن تومبسون من الصعود على متن عدد من السفن في الولايات المتحدة، حصل منها على جداول فصلية مهمة لتعيينات السفن الحربية والطرادات ومعلومات عن البطاريات الرئيسية، والطوربيدات، ومعلومات استخبارية مرتبطة بها.
في ديسمبر/كانون الأول صعد على متن سفينة USS Mississippi وتمكن من الفرار وبحوزته منشور يتكون من 230 صفحة من ملف سري خاص بكلية U.S. Navy gunnery school. صعد على متن السفينة نفسها مرة أخرى في الشهر التالي واختلس تقارير عن بطاريات المدافع والطوربيدات الرئيسية.
وكشف حبيبه السابق الذي كان يعيش معه لضباط في البحرية مثلية تومبسون. وتتبعه الضباط لفترة لجمع أدلة إضافية، واستجوبوه عن نشاطاته المريبة. عند هذه النقطة اعترف تومبسون بعمله جاسوساً لصالح اليابان.
وفي منتصف عام 1936 أُدين بجريمة التجسس وحكم عليه بالسجن 15 عاماً في سجن فيدرالي.
جون إس. فارنسورث: جاسوس ياباني في الأكاديمية البحرية
كانت قضية جون س. فارنسورث أكثر إزعاجاً للمسؤولين الأمريكيين والرأي العام الأمريكي. فارنسورث تخرج عام 1915 في الكلية البحرية للولايات المتحدة، ثم اُختير لإتمام الدراسات العليا في مدينة أنابولس عاصمة مقاطعة ماريلاند وأيضاً الدراسات العليا في هندسة الملاحة الجوية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
تولى قيادة سرب المراقبة السادس بالقوات البحرية، التابع لأسطول طائرات الاستطلاع، قبل أن يُعفى من القيادة عام 1927 ويحال للمحاكمة العسكرية ويتهم بشرب الكحوليات والمقامرة واقتراض نقود من مجند ورفض ردها له، وأيضاً الإدلاء بشهادات كاذبة بخصوص هذا الموضوع.
أثارت محاولاته للحصول على معلومات سرية خاصة بالملاحة الجوية شكوكاً في مجتمع خريجي الأكاديمية البحرية المترابط، الذين كانوا يديرون البحرية الأمريكية في سنوات ما قبل الحرب، خاصةً بسبب محاكمته العسكرية السابقة.
كان كل من مكتب الاستخبارات البحرية ومكتب التحقيقات الفيدرالي يراقبانه عن قرب وجرى اعتقاله يوم 13 يوليو/تموز. ووقع اعترافاً يقر فيه ببعض جرائم التجسس وأدين بالجُرم وحُكم عليه بالحبس لمدة 4 إلى 12 عاماً في سجن فيدرالي، أما اليابانيون الذين كان على صلة بهم فقد اقتيدوا خارج البلد إذ نُقلوا لموطنهم.
التحول إلى الجواسيس المحليين
على الرغم من تشديد الإجراءات الأمنية الأمريكية، استمرت محاولات اليابانيين للحصول على معلومات عن الصناعات الدفاعية الأمريكية والقواعد العسكرية في أراضي الولايات الأمريكية المتجاورة وفي هاواي. وعلى الأرجح نتيجة تجارب الجيش الياباني مع فارنسورث وتومبسون، بدأ اليابانيون الاعتماد أكثر على جواسيس من مواطنيهم مثل يوشيكاوا.
كان يوشيكاوا بدوره واعياً أمنياً بصورة استثنائية. عند خروجه من القنصلية كان يرتدي ملابس مدنية عادية ويحجم عن الحديث على نحو واع أغلب الوقت عند التعامل مع اليابانيين الأمريكيين، باستثناء سائقيه المؤتمنين. كان السائقان يتجولان به في أنحاء أواهو بسيارتهما الخاصة لا بسيارات القنصلية لتجنب لفت الانتباه.
أثبت السائقان أنهما يمكن الاعتماد عليهما والثقة بهما على نحو استثنائي، خاصة ريتشارد م. كوتوشيرودو، الذي وُلد في هاواي، وتلقى تعليمه المبكر في اليابان. تعلم كوتوشيرودو على يدي يوشيكاوا وأصبح قادراً على تمييز السفن من ظلالها بشكل صائب وإجراء المراقبة بنفسه، وأضاف هذا بفاعلية زوجاً آخر من العيون الماهرة الموثوقة بها لجهود يوشيكاوا التجسسية.
برنارد أوتو كوين: جاسوس ثمين من ألمانيا النازية
أثبتت تقارير يوشيكاوا التفصيلية المتزايدة في العدد أنها ذات فائدة استثنائية لرؤسائه في اليابان، الذين جندوا جاسوساً آخر في هاواي يسمى برنارد أوتو كوين.
وبرنارد هو مواطن ألماني، وصل هاواي عام 1935، وكان يعمل فعلياً جاسوساً لألمانيا النازية. وأمدوه بجهاز إرسال راديو صغير بمدى 100 ميل (160 كيلومتراً). استخدمه لنقل الرسائل عن حركات وإنشاءات السفن إلى الغواصات اليابانية والتي تنقلها بدورها إلى طوكيو.
بدت عائلة كوين غافلة عن أهمية التخفي. عملت ابنته روث مُصففة شعر متواضعة الحال، لكنها كانت في الوقت ذاته تسدد فواتيرها بعملات نقدية بفئات كبيرة ما لفت الانتباه إليهم.
اكتشاف الجواسيس
المثير في الأمر، أنه تم التعامل مع يوشيكاوا باعتباره جاسوساً عندما أُرسل مباشرة لمنزل كوين في الثاني أكتوبر/تشرين الأول ليسلم 14 ألف دولار من الأوراق النقدية الجديدة مع رسالة لكوين بأن يختبر جهاز الإرسال. مرر الألماني رسالة ليوشيكاوا تقول إنه لم يتمكن من إجراء الاختبار.
كان كوين متردداً في استخدام جهاز الإرسال خوفاً من أن القوات العسكرية الأمريكية ربما تكتشف وتحدد موقع إشارته.
وازداد شعوره بالخطر حين استحدث جهاز المخابرات الياباني، نظاماً من العلامات البصرية الغريبة، يمكن أن يستخدم مصابيح السيارات، وأنواراً تومض من الأدوار العليا لمنزله، ورموزاً تعلق على قوارب المراكب الشراعية، وجميعها تتطلب أن تبحر الغواصات اليابانية قريباً من الشاطئ لترى العلامات مما يشكل خطورة عليه.
جرى اعتقال الألماني سيئ الحظ، الذي كان تحت المراقبة لسنوات، في 7 ديسمبر/كانون الأول، وانعقدت محاكمته في هونولولو، وأُدين بجريمة التجسس في فبراير/شباط 1942، وحُكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص على يد فرقة الإعدام. كانت الأدلة التي حصلوا عليها بعد توقيفه جوهرية، وشملت الأموال التي حصل عليها من يوشيكاوا، ملفات مكثفة لمقتطفات من الجرائد عن أسطول الولايات المتحدة وقواعدها والقوات الجوية، مع مجموعة من صور فوتوغرافية لسفن البحرية. خُففت عُقوبة كوين إلى الحبس 50 عاماً في السجن، بعدما اكتشفوا أن يوشيكاوا هو الجاسوس الأساسي وراء الهجوم.
أبحر يوشيكاوا بدوره إلى اليابان في تبادل دبلوماسي، بعد الهجوم وقبل أن يُكتشف دوره أثناء استجواب السائق كوتوشيرودو. كما أُرسل كوين وعائلته إلى ألمانيا بعد انتهاء الحرب.
دفع نجاح العملية الاستخباراتية اليابانية لجمع المعلومات على جزيرة أواهو في الشهور السابقة للهجوم على ميناء بيرل هاربر بالولايات المتحدة لتشديد إجراءاتها الأمنية في العقود التالية.