"ماذا يجمع بين الماء والشركسي؟ يجمع بينهما طهر الماء الصافي، ونقاء قلوب الفرسان، وعروش وكروم، تتعانق فيها الأغصان".
هو أجمل ما قاله الشاعر الأردني حيدر محمود عن الرجل الشركسي.
لكن لم يكن الرجل الشركسي الوحيد الذي أشاد العلماء والرحالة والمؤرخون المختصون بالأقوام القديمة بصفاته القومية وخصائصه النفسية والاجتماعية والأخلاقية والجسمية.
وإنما أيضاً تغنّوا بأخلاق المرأة الشركسية، وجمالها وحيويتها وإخلاصها وتفانيها واعتدادها بنفسها واعتزازها بأنوثتها.
لدى الشركس منظومة قدّست المرأة!
تقدّس منظومة الأديغة خابزة التي تحدثنا عنها سابقاً، احترام المرأة، فعلى الفارس الراكب إذا اعترضت طريقه امرأة شركسيّة التوقّف والترجّل عن حصانه والبقاء واقفاً حتّى تمرّ المرأة احتراماً لها.
أمّا إذا التقى بها في منطقةٍ بالخارج، فعلَيهِ أن يترجّل عن حصانه وأن يوصلها حيثُ تريد مشياً وبينهما الحصان.
وأمّا إن كان الرجل مترجّلاً دونَ حصانٍ فعلى المرأة الوقوف في مكانها حتّى يمرّ الرجل من أمامها غير ملتفت إليها.
كما يكفي لأي شخص مطارد أن يأوي إلى امرأة شركسية حتى يصبح من المحرم المساس به.
وكذلك لا يمكن إيقاع أية عقوبة أو انتقام وخاصة القتل بوجود امرأة.
حرية المرأة الشركسيّة أمر مقدّس!
تتميز المرأة الشركسية بحرية تامة، وغالبيتهنَّ غير محجبات ولا يشتركن بأعمال الحقل مع الرجال.
ويستطيع الشاب الشركسي أن يفخر بكل نزاهة أنه بالرغم من هذه الحرية المباحة للمرأة.
لم تحدث حوادث مُشينة بالعرض أو الأخلاق منذ عُرفت هذه العادات وعُرفت الأمة الشركسية على وجه الأرض.
وتقتصر وظائف الفتيات فقط باستقبال الضيوف في غياب رب المنزل، محافظات على الكرم وآداب اللباقة المقدسة لدى الشركس.
ويقول أحد الأمثال الشركسية: " بيت لا سيدة فيه.. كُحل قد زُرع فيه".
أما بالنسبة للزواج، فلدى الشركس عادة جميلة جداً وهي بأن الأهل لا يتدخلون باختيار العريس، وللفتاة كامل الحرية في اختيار شريك حياتها.
كما تُعّد الفتاة قرّة عين والدها قبل الزواج، فلا تقع عليها أية واجبات، ولا يجب أن تقوم بأي شي في المنزل إلى أن تتزوج.
بينما يقع على شقيقها الواجب كاملاً للتكفّل بنفسه بكل متطالباتها ومستلزماتها بل وحتى القيام بواجباتها المنزلية.
المرأة الشركسيّة: بريق أعينهنَّ المكحلة على الطريقة الشرقية لا يستطيع أي رسام تقليدها!
الفيلسوف الألماني المختص بعلم دراسة الشعوب "يوغان غوتفيلد غيردر" كان من أوائل من كتبوا عن المرأة الشركسية، قائلاً:
"أمّا الشركسيات فالكل يعرف جمالهنَّ ويقرُ لهنَّ بجمال الحواجب السوداء الحريرية الدقيقة، وعيونهن السوداء التي تشع كالنار، وجباههن الناصعة الملساء، ووجوههن المدورة".
كما وصفهن رحالة ألماني آخر بقوله: "إن الناظر للفتاة الشركسية يجد روعة أجسادهن والليونة الفائقة لخصورهن، كلُ الفتيات جميلات وبعضهن فائقات الجمال".
وأضاف، أمّا البريق الذي في أعينهن الواسعة المكحلة على الطريقة الشرقية فلا تستطيع ريشة أي رسام التعبير عنه، واعترف أني وجدت فيهن كل ما قرأته وسمعته.
وقدِ اعتبر الشراكسةُ أنّ الملابسَ الجميلة تفرضُ على الفتاة السلوك الحسَن، إذ تميّزتِ الفتَيات والنساء الشركسيّات بالحشمة في اللباس والذوق الرفيع فيه.
فلا توجدُ إضافات لا معنىً لها أو ألوان فاقعة قبيحة المنظر.
ويُروى أن كانَ مجموعة من الرجال يجلسونَ في شارع إحدى القرى الشركسيّة، فمرّت من جانبهم فتاة لم تصل سنّ البلوغ.
فنهضَ قازَنوقه جباغ أحد حكماء الشراكسة واستقبلها بتحيّة، فاستغربَ الرجال ذلك وسألوهُ لماذا نهض وهي لا تزال طفلة.
فردّ قازَنوقه: لم أنهض بسبب سنوات عمرها ولكن لأنّها أمُّ المستقبل وربّما تتعلّم ما تراه وتنقله إلى أبنائها.
3 ضفائر.. واحدة للخلف واثنتان إلى الأمام!
من أهم متطلبات الجمال الأنثوي لدى الشركسيات هو الشعر الكثيف الطويل الأسود أو الكستنائي، حيث يجدّل على شكل 3 ضفائر، واحدة إلى الخلف واثنتان إلى الأمام.
ويُلاحظ أن ترك الشعر طليقاً منساباً بدون ضفائر لم يكن مقبولاً بل بالعكس كان مرفوضاً، كما كان من قواعد الأتيكيت الشركسي بأن يكون الشعر طليقاً.
كذلك كان قص شعر الفتيات بمثابة إهانة لهن ويعرض صاحبته للسخرية والانتقاد.
ونستنتج مما تقدم بأن أهم الصفات التي تتحلى بها المرأة الشركسية بشكل عام يمكن إيجازها كما يلي:
الإخلاص: المرأة الشركسية تخلص لبيتها وزوجها وتتفانى في تربية أولادها وفي خدمة زوجها وعائلتها.
الحيوية والنشاط: تتمتع المرأة الشركسية بنشاط وحيوية دائمة، ولا تكل أو تمل في القيام بواجباتها المنزلية بعد الزواج وبتقديم العون للأهل وللجارات.
الوفاء: هي سمة من سمات المرأة الشركسية الإيجابية، وكذلك حفظ الجميل لمن يحسن إليها ويحترمها.
الصبر: من مميزات المرأة الشركسية في كل المواقف الصعبة والحرجة هو قدرتها على الصبر وأنها لا تتذمر أو تشكو لأحد من أهلها وعائلتها أو حتى لأقرب صديقاتها.
كتومة ومحافظة على أسرار الزوجية ونادراً ما تبوح بها حتى لأهلها.
تتمتع بحرية شخصية في التخطيط لمستقبل حياتها عامة وفي اختيار شريك حياتها دون تدخل من الأهل.
وإن تدخلوا فلها الحق بحكم عادة "الكواسة" وهي الاقتران بمن تحب وترغب وتوكيل من تشاء لعقد قرانها، حتى وإن عارض الأهل في ذلك.
الاعتداد والثقة بالنفس، دون كبرياء، من السمات المميزة للمرأة الشركسية.
الاعتزاز بأنوثتها وجمالها دون غرور أو تعجرف.
الحياء والأدب الجم وهي صفة ميزتها عن كثير من نساء قوميات أخرى، فضلاً عن تواضعها في كل المواقف حتى وإن كانت من أسرة غنية أو فقيرة.
الفتاة "مانحة الروح"!
"بساشة ПАЩЭ"، هي المرادفة الشركسية لمعنى كلمة "فتاة"، ويتكون أصل هذه التسمية من مقطعين.
الأول بسا/بسَ / ПСА-ПСЭ أي بمعنى روح، والثاني شَ ЩЭ أي بمعنى جاذب أو مانح أو واهب أو بائع.
ليكون المعنى الحرفي لكلمة فتاة، هو مانحة الروح أو واهبة الروح، وبعبارة أخرى " ملهمة الروح".
ويعد هذا التعبير واضحاً عن نظرية قدماء الشركس للفتاة ودورها في الحياة، وهي نظرة إيجابية، تفسر الكثير من جوانب اهتمام الشركس بالفتاة.
والمكانة العالية التي تحظى بها في الأسرة، فالفتاة الشركسية أميرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
أما كلمة الأم فقد وجد قدماء الشركس رابطاً مشتركاً بينها وبين كلمة العين، فجعلوها جذراً واحداً للكلمتين، НЫ.
ليكون التعبير واضحاً بأن الأم هي بمثابة العين، التي دونها ستكون الحياة ظلاماً.
المرأة والأساطير الناريّة
بدلالة المكانة العالية، التي احتلتها الأم في المجتمع الشركسي، والتي عبرت عنها الملاحم النارتية بشكل أو بآخر، فالأم ستناي هي الشخصية الرئيسة في هذه الملاحم.
كما أن الشركس خلدوا الأم، من خلال ذكرها في لازمة اللحن الشركسي، وكذلك الأغنية.
ورغم مئات السنين التي تفصلنا عن بدايات أساطير نارت الشركسية التي شكلت بأحداثها وتفاصيلها شخصية الإنسان الشركسي وأضفت على سماته ملامحه المتميزة وطبعت سلوكه ومواقفه بطابع الأرض التي نشأ وعاش عليها منذ آلاف السنين.
فتمازجت روحه مع صلابة وشموخ القمم الشاهقة ونصاعة الثلوج الأبدية في القوقاز.
إنّ شخصية ستناي كواشة معروفة من قبل كل القبائل الشركسية، كما أن اسمها متداول في كل لهجاتهم كاسم، ويطلق في الوقت ذاته على زهرة مميزة تعبر عما كانت تتحلى به ستناي من صفات نادرة.
وكان لها دور كبير في حياة النارتيين بسبب مواقفها وتدخلها في شؤونهم، ويبدو ذلك أكثر وضوحاً في النصوص المتعلقة بابنها ساوسروقة الذي يستشيرها في كل الأمور ويخبرها بكل ما يحدث معه.
أما في فترات الصراع ما بين عصر سلطة الأم وعصر سلطة الأب تختلف أساليب الروايات وتكثر فيها النصوص التي تنتقص من شخصية سوسروقة الذي يعتمد على أمه وتظهر ملامح هذه الفترة في النصوص المتعلقة بشباتينوقة (بدانوقة) وفيها يتراجع دور ستناي.
ستناي أمُ الشراكسة!
لستناي كواشة منزلة مميزة خاصة فهي أم النارتيين وهي التي ربت أبرز الأبطال (سوسروقة – شباتينوقة – أشمز)، وهي التي تجسد في شخصها اجتماع الجمال والموهبة والذكاء.
وبالإضافة إلى أنها تتمتع بجمال أزلي لا يوصف فهي خارقة الذكاء تشرح للأبطال ما يخفى عليهم.
وهي أول من يدرك ما يستجد في العالم من أمور وهي التي تقرأ المستقبل وتملك أسرار كل الأشياء وخير عون للنارتيين في أوقات الشدة وفي اللحظات الحرجة.
كما أنها تستطيع السيطرة على الطقس وعلى الشمس نفسها ولكلماتها من القوة ما يجعل كل ما تنطق به حقيقة.
وفي بعض النصوص تقرن ستناي بالشمس وفي هذا النص بعنوان زهور ستناي ما يوحي بأنها الشمس بعينها:
كل أفكار العالم من صنع يديها
وكل الجمال في الكون كان صورتها
كانت شريكة بطولاتنا نحن النارتيين
وعندما يهاجمنا العدو كانت ضرباتها تصد العدو مع ضرباتنا
وفي البراري كانت دليلنا إلى مواطن الخصب
شمسنا في النهار وكانت قمرنا في الليل
تلك الأزهار التي ترونها هدية منها
فقد نبتت من أجل ستناي
إنها تزهر من أجل ستناي.
يعدُّ هذا النص، أصدق تعبير عن نظرة النارتيين لستناي كواشة ومنزلتها الكبيرة عندهم.
ويبدو أن ستناي كانت المسيطرة (رمز للأم) وكانت تحتل المكانة الأولى في عصر سيطرة الأم فهي أم النارتيين وأم سوسروقة.
وهي هنا رمز للأم التي تغرس في وليدها قيم الشجاعة والبسالة والمروءة وتنشئه تنشئة البطل الذي يمتلك من القوة الجسدية والنفسية ما يجعله يستهين بكل الصعاب.
وإذا كانت ستناي كواشة تشغل هذا الحيز الواسع في الأساطير، فإن هذه الأساطير تفرد صفحات كثيرة لنساء أخريات مثل:
داخة ناغوة التي تعيش خلف الأنهار والغابات.
أديوك التي تعيش مع زوجها "بسه بدة" في كوخ في أعالي نهر ينجج.
أكواندة الجميلة ابنة أليج رئيس مجلس النارتيين.
لمحة أخيرة
في نهاية هذه السلسلة التي تحدثنا فيها عن أهم عادات وتقاليد الشركس، لا سيما (الأديغة خابزة، زواج الخطيفة، الرقص الشركسي، قدسيّة المرأة عند الشركس).
بقي أن نقول إن الأديغيين لديهم علمٌ أخضر مكوّن من 12 نجمة ذهبية ترمز إلى قبائلهم، و3 أسهم متقاطعة تتجه نحو النجوم للدلالة على أنهم شعب يريدون السلام، ولكنهم سيُقيمون حرباً لو اقترب أحد منهم.
ويحتفلون في 25 أبريل/نيسان بيوم العلم الشركس.
ولا ينسى الشراكس يوم 21 مايو/أيار 1864، ويطلقون عليه يوم "الحداد الشركسي" أو "يوم الحزن الشركسي" حزناً وتخليداً لجميع ضحايا المجازر وحرب الإبادة الجماعية لهم على يد روسيا والتي استمرت 101 عام.
اندمج الشراكسة في المجتمعات التي هُجِّروا إليها اندماجاً كبيراً، ولهم دور كبير في تاريخ هذه البلدان وبنائِها، إلّا أنّهم حافظوا على هويتهم العرقية الخاصة ولغتهم وعاداتهم القبائلية، وزيهم التقليدي وتراثهم الأصيل.
كما أن للشراكسة مقابر خاصة بهم ومراكز ثقافية تسمى "جمعية خيرية" تعلّمُ أبناءَهم اللغة الشركسية، ومساجد ومدارس ومعاهد جميعها تكتب عليها لوحات بالأحرف الشركسية.