نحن لا نعرف الكثير عن الثقافة الإندونيسية، ولا نطالع غالباً الأدب أو السينما أو الشعر الإندونيسي، لكن هنا رواية إندونيسية تسمى " الجمال جرح " التي نقدمها لك بعد أن وصلت لجائزة المان بوكر العالمية، وكاتبها يقارنونه بجابرييل غارسيا ماركيز أديب الواقعية السحرية الأشهر وصاحب "مائة عام من العزلة".
نعم لقد نجح الكاتب الإندونيسي إيكا كورنياوان في هذا من خلال روايته "الجمال جرح" التي تتكاثف فيها الرؤية لتخرج مزيجاً من التاريخ والأساطير والسحر.
وقد تعيش شخصيات الرواية في خضمٍّ من العنف والشغف والشبق والحروب، وتندلع الثورات وتفشل وتتوالد أكثر الأحداث خياليةً من الفلكلور الشعبي والثقافة الإندونيسية تماماً كما حدث في مستهلّ الرواية حينما ذكر كورنياوان: "في عصر عطلة أسبوعية من مارس، وبعد موتها بإحدى وعشرين سنة، نهضت ديوي أيوا من قبرها!".
التاريخ الإندونيسي متجسّد في عائلة ديوي أيوا وبناتها الأربع
الجمال جرح روايةٌ تحكي قصة أسرة تتطور جنباً إلى جنب وبتوازٍ مع الدولة الإندونيسية؛ ففي إحدى البلدان الساحلية الخيالية التي تُدعى هاليموندا ولدت ديوي أيوا من أبوين شقيقين من نفس الأب ولكن من أمّين مختلفتين نصف إندونيسية ونصف هولندية.
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية فرّ الهولنديون من البلدة وبقيت ديوي أيوا في مسقط رأسها رافضة المغادرة إلى أوروبا، وعندما احتلّت اليابان هاليموندا سيقت ديوي أيوا للأسر، ثم عملت عاهرة للجنود اليابانيين حتى حملت بطفلتها الأولى ألامندا من أحد الجنود، ليبدع كورنياوان من تلك النقطة في التشعُّب والبدء بسرد التاريخ الإندونيسي من خلال بنات ديوي أيوا.
بعد الاستقلال عن الاحتلال الياباني تستمر ديوي أيوا في عملها بالدعارة حتى تتحوَّل لأفضل عاهرة في مدينة هاليموندا، وتستمرّ كذلك في إنجاب البنات إذ كان لديوي قاعدة هامة وهي أنَّ الزواج من شخص لا تحبه هو أسوأ من العيش عاهرة فلماذا تمارس الجنس بالمجّان إذا كان يمكنها أن تتقاضى مقابلاً لذلك؟
بنات ديوي الثلاث يتزوجن أهم الرجال
تبدأ خطوط الرواية في الانسجام معاً عندما تتزوَّج بناتُ ديوي الثلاث من أهم رجال في هاليموندا، مامان غيندنغ الثوري الذي تحوَّل إلى بلطجي، وشودانشو الذي حارب الاحتلال الياباني وناضل كثيراً من أجل الاستقلال حتى تحوَّل إلى القائد العسكري الإقليمي لخدمة النظام الوحشي للديكتاتور سوهارتو، والرفيق كلاووين الشيوعي والخطيب المفوَّه الذي شهد مجزرة الشيوعيين عام 1965 التي راح ضحيتها أكثر من نصف مليون شيوعي في إندونيسيا.
تقدِّم رواية "الجمال جرح" الملحمية قطعةً أثريةً ثقافية وتاريخية تساهم في فهم التاريخ والحضارة الإندونيسية، كما تجمع الرواية بين التاريخ والثقافة الشعبية والمأساة العائلية والفكاهة والرومانسية والحميمية والاغتصاب والجشع والنضال في سبيل الاستقلال والقتل الجماعي!
من الثقافة الشعبية الإندونيسية؛ خطاياك دائماً ما تعود إلى المنزل
لم يكتفِ كورنياوان بتوثيق التاريخ الإندونيسي بداية من الاستعمار الهولندي ومروراً بالاحتلال الياباني ثم الاستقلال والثورة ومن بعدها الديكتاتورية وإنّما طعَّم ذلك التاريخ بالفلكلور والثقافة الإندونيسية.
نحن أمام عمل فني يحتوي على الكثير من الخيال الجامح والجنون؛ فوفقاً للثقافة الشعبية الإندونيسية خطايا الإنسان تجد طريقتها دوماً إلى منزله ولذلك عندما بدأت مجزرة الشيوعيين عام 1965 في هوليموندا كان السكان يرون أشباح هؤلاء الشيوعيين في كلّ مكان، كانت تطاردهم كونهم تخلّوا عن الثورة وعن الحرية وأكثر من تعرَّض لتلك المطاردات حتى أًصيب بالجنون التام كان شودانشو القائد العسكري الذي أمر بذبحهم في الطرقات!
تعاويذ سحرية وظلمات الاضطرابات الإنسانية
السحر واللجوء إلى السحرة كان متواجداً بقوة داخل الرواية؛ فألامندا ابنة ديوي أيوا التي تزوجت من شودانشو على غير إرادتها بعد أن اغتصبها، قرَّرت أن تذهب لأحد السحرة حتى لا يقربها شودانشو أبداً وقد قام الساحر حينها بصنع درعٍ حديديّة قويّ لأمندا وضعته على الجزء السفلي من جسدها ولا يمكن فتح هذه الدرع إلا بتعويذة سحرية قوية تتلوها ألامندا فقط.
وعندما كانت ديوي أيو حاملاً في ابنتها الرابعة ذهبت إلى الساحر حتى يجعل ابنتها قبيحة غاية في القبح لكيلا يتشابه مصيرها مع مصير إخوتها الجميلات.
يأخذ كورنياوان فيما بعد مسار القصة إلى مستوى أكثر عمقاً وأكثر ظلمة؛ إذ يقوم بتصوير الاضطرابات التي تعاني منها شخصيات الرواية ويرسم هيئتها ويعطيها أشكالاً تجسدت في عودة ديوي من الموت بعد 21 عاماً من وفاتها من أجل إنقاذ سعادة بناتها، والخنزير الذي تحول إلى إنسان والفتاة التي تزوّجت من كلب وكذلك المحظية ما إيانغ التي طارت وصعدت إلى السماء ومامان غيندنغ الذي تحول إلى شبح بعد أن مارس تأمل الموكشا.
لطالما كان تاريخ هاليموندا دموياً لكننا أمام عمل أدبي تحدث عن انعكاس هذا التاريخ على شخصيات العمل وكيف أثر في تكوينهم وثقافتهم، كورنياوان اخترق شقوق التاريخ وتسلل إلى الأماكن المظلمة ليسرد لنا العنف والخوف وثقل الماضي ووحشية الاستعمار ومغبة الديكتاتورية وقبح الواقع.
الواقعية السحرية.. قوة الخيال التي تُرعب الحقائق المؤلمة
الواقعية السحرية تيار روائي يرتكز على نسج الخيال مع الوقائع، وفي الأدب بدأت الواقعية السحرية عام 1935 عبر المجموعة القصصية "الدنوّ من المعتصم" El acercamiento a Almotásim للكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899-1986).
من بعده ساهم الكثير من الكتاب في إرساء قواعد الواقعية السحرية التي كانت تعتبر فريدة ومتميزة عن أعمال الكُتاب الأوروبيين ومن أهم كتاب الواقعية السحرية في أوروبا فرانس كافكا، ومن بين المؤلفين اللاتينيين الآخرين غابرييل غارسيا ماركيز وإيزابيل أليندي، وميغيل أنخيل أستورياس، ولورا إسكيبيل، وإيلينا غرو، ورومولو غاليغوس، وخوان رولو.
لم يكن غابرييل غارسيا ماركيز الحاصل على جائزة نوبل للآداب يعلم عندما كتب رائعته "مائة عام من العزلة" عام 1976 أنه وبعد مرور 48 عاماً سيأتي كاتب إندونيسي يُدعى إيكا كورنياوان ليكتب عملاً يضاهي "مائة عام من العزلة" مجسّداً عالمه السحري الذي تشابه إلى حد كبير مع عالم ماركيز.
أعمال أخرى مميزة من الفئة نفسها
هاليموندا في الجمال جرح جاءت على غرار قرية ماكوندو الخيالية في "مائة عام من العزلة"، كما أن ماركيز سرد عوالم روايته من خلال عائلة واحدة فقط وهي عائلة سيرة بوينديا على مدى 6 أجيال، وعلى غرار هوليموندا تسود الحروب الطويلة في ماكوندو بقيادة الكولونيل أورليانو بوينديا الليبرالي ضد المحافظين.
في نفس سياق الواقعية السحرية، ولكن بعيداً عن الحروب والمآسي كتبت لورا إسكيبيل روايتها الشهيرة "كالماء للشوكولاتة" وفقاً للواقعية السحرية؛ لكنها صنعت عالمها الموازي داخل المطبخ وبين الأطعمة والتوابل المكسيكية، فبطلة الرواية تيتا ووفقاً للتقاليد المكسيكية الشعبية لا يحق لها الزواج وإنما يجب عليها الاعتناء بوالدتها حتى الممات.
في محاولة البطلة للخروج عن العادات والتقاليد المجتمعية تقرر تيتا التصرف بحرية في المطبخ إذ تقوم بإعداد الوجبات بعيداً عن الوصفات المعروفة سلفاً وإنما تخلق وصفاتها الخاصة، يُذكر أن الأطعمة التي كانت تعدّها تيتا كانت أطعمة سحرية فأثناء إعداد كعكة الزفاف الخاصة بأختها بكت تيتا وهي تعد الوصفة لأن أختها تزوجت من حبيبها وعليه بكى جميع المدعوين أثناء تناول الكعكة يوم الزفاف، وعندما أعدت طبق السمان بالورود التي أهداها لها حبيبها بيدرو أصاب جميع أفراد العائلة الذين تنالوا الطعام حالة من الشبق الجنسي حتى أن أختها فرّت هاربة من البيت عارية وعملت في ماخور البلدة.
يُذكر أن رواية "الجمال جرح" حصلت على جائزة "وورلد ريدر" لعام 2016 فضلاً عن ترشحها لجائزة ميدسيس الفرنسية لعام 2017 كما أن كاتبها إيكا كورنياوان كان أول كاتب إندونيسي يصل إلى القائمة الطويلة لجائزة مان بوكر عام 2016 بروايته "الرجل النمر" التي حصلت أيضاً على جائزة صندوق أوبنهايمر للأصوات الناشئة التابعة لجريدة فايننشيال تايمز.