في الـ11 من يوليو/ تموز 1302، نجح شعب الفلاندر (أحد أقاليم بلجيكا حالياً) في هزيمة الفرنسيين المحتلين بمعركة كورتري، المعروفة أيضاً باسم معركة "الرماح الذهبية". واليوم بعد مرور أكثر من 7 قرون على هذا الانتصار، نلقي نظرة على أحوال المجتمع البلجيكي، الذي وإن بدا متحداً خلف منتخب بلاده في كأس العالم، فإن الدولة الأوروبية الصغيرة الشهيرة بشوكولاتتها الفاخرة تخفي انقسامات تعود للقرون الوسطى.
3 لغات رسمية لـ3 قوميات في دولة واحدة
11.3 مليون شخص يعيشون على 30.5 ألف كيلومتر مربع داخل 3 مناطق متمايزة بوضوح:
– منطقة الفلاندر الواقعة شمال البلاد، وتضم أغلبية السكان (6.5 مليون شخص).
– منطقة والونيا التي تقع في الجنوب على الحدود مع فرنسا، ويسكنها 3.6 مليون شخص.
– وأخيراً، منطقة العاصمة بروكسل في الوسط، التي يعيش بها نحو 1.2 مليون مواطن.
يتحدث السكان بلغات مختلفة ترمز إلى المناطق التي ينتمون إليها؛ فسكان الفلاندر "الفلامنكيُّون" يتحدثون الهولندية، في حين يتحدث "الوالونيُّون" الفرنسية وقليلاً من الألمانية. أما أهل بروكسل -العاصمة غير الرسمية للاتحاد الأوروبي- فيتحدثون خليطاً من كل هذا، إلى جانب بعض الإنكليزية.
يتمسك الفلامنك والوالونيون بلغاتهم ويستهجنون من ينطق بغيرها في مناطقهم؛ وهو ما دفع الدولة البلجيكية إلى اعتماد 3 لغات رسمية بدلاً من لغة واحدة، هي: الهولندية والفرنسية والألمانية.
احتلتهم فرنسا ثم هولندا قبل أن يثوروا ويستقلُّوا
احتلت فرنسا بلجيكا، التي كان يُطلق عليها جنوب هولندا عام 1794، بعد أن نجحت قواتها في طرد النمساويين الذين كانوا يسيطرون عليها منذ عام 1713. واستمر الحكم الفرنسي لبلجيكا حتى عام 1815 عندما هُزم نابليون في معركة واترلو.
اجتمع قادة أوروبا بعد هزيمة فرنسا، في مؤتمر فيينا عام 1815؛ لإعادة رسم خريطة القارة، وقرروا توحيد بلجيكا وهولندا في مملكة هولندا. وكان الهدف من ذلك وضع حاجز أمام أطماع فرنسا في التوسع مستقبلاً، وظلت بلجيكا خاضعة لهولندا حتى عام 1830 عندما ثار البلجيكيون على الملك الهولندي وليام الأول وحصلوا على استقلالهم.
ولكن الاحتلال قسم الشعب بين فرنسي متعالٍ وهولندي مغلوب على أمره
انعكست فترات الاحتلال على ثقافة ومصالح الشعب البلجيكي فانقسم إلى قسمين؛ إذ كان أغلب أهل منطقة الوالون المتقدمة في ذلك الحين يتحدثون الفرنسية هم ونخبة الفلامنك باعتبارها لغة عِلية القوم، أما اللغة الهولندية فقد ظلت لغة غير المتعلمين من الفلامنكيين.
كما كان هناك تضارب في المصالح بين نخبة الوالون البرجوازية وعامة الشعب، خاصة فقراء الفلامنك؛ فأهل الجنوب المتقدم استفادوا من التطور الصناعي الذي أحدثه الهولنديون بعد ضم بلجيكا إليهم، في حين تضرر فقراء الشمال الذين لم يدخلوا عصر الصناعة.
ورغم أن أغلبية الشعب البلجيكي شاركت في طرد الهولنديين، فإن الانقسامات العميقة في المجتمع لم تلتحم، حتى بعد مرور قرنين من الزمان.
ثم انعكست الآية وانتقلت الثروة لإقليم الفقراء
بعد الاستقلال كان يتحكم في بلجيكا النخب الناطقة بالفرنسية، وازداد غنى إقليم والونيا الصناعي، في حين استمر فقر إقليم الفلاندر وعانى التهميش، واستمر الحال على ذلك عقوداً، فعلى سبيل المثال لم تكن هناك جامعة فلامنكية حتى عام 1930، ولم يُترجم الدستور البلجيكي إلى اللغة الهولندية التي ينطق بها الفلامنك إلا في عام 1967.
شيئاً فشيئاً أدى الوزن الديموغرافي والاقتصادي للفلامنك إلى تحويل ميزان القوى السياسي إلى الشمال، وذلك بالتزامن مع تراجع صناعات الفولاذ والفحم والنسيج في إقليم الجنوب، ثم سرعان ما انقلبت الآية وازدهرت صناعات التكنولوجيا الفائقة والبتروكيماويات الحديثة بإقليمي الفلاندر وبروكسل، وتعثرت والونيا وأصبح أهلها يعيشون على ما ينتجه أهل الشمال.
وبات الأرستقراطيون "مجموعة كسالى"
صار الفلامنكيُّون ينظرون إلى الوالونيِّين باعتبارهم مجموعة من الكسالى الذين يعيشون من خير أهل الشمال دون إنتاج، وامتد الانقسام إلى السياسة فانتخب الفلامنكيون اليمينيين وانتخب الوالونيون الاشتراكيين، وبدأت الصراعات تأخذ أبعاداً أوسع، وأصبحت هناك مطالبات من أهل الشمال المتقدم بالاستقلال عن أهل الجنوب المتخلف.
لم يتوقف الانقسام عند هذا فقط؛ بل امتد إلى نظام الحكم؛ فبعض الفلامنك يعتقدون أنه قد آن الأوان لإلغاء النظام الملكي أو الإبقاء عليه بروتوكولياً بأحسن الأحوال، في حين يؤيد الوالونيون النظام الملكي.
وعلى سبيل المثال، عندما زار الملك ألبير الثاني وزوجته باولا مدينة غاند الفلامنكية، في زيارة أخيرة قبل تنازله عن العرش عام 2013 استُقبلا بفتور ولا مبالاة من قِبل مئات الأشخاص، في حين لقي الثنائي الملكي ترحاباً من جانب الآلاف في مدينة لييج الوالونية.
وحتى يومنا هذا تكشف الانتخابات هذه الانقسامات مع كل تشكيل حكومة
جميع هذه الترسبات جعلت الانتخابات البرلمانية في بلجيكا كأنها مواسم رسمية لإظهار مدى عمق الانقسام الذي وصلت إليه البلاد.
فمنذ انتخابات 2007 والنخبة السياسية الفلامنكية اليمينية لا تتحدث سوى عن توسيع سلطات الأقاليم المختلفة؛ تمهيداً لانفصال شمال بلجيكا عن جنوبها في وقت ما بالمستقبل.
ورغم أن الأقاليم البلجيكية الثلاثة تتمتع بسلطات كبيرة منذ إقرار دستور 1970، خاصة في الإدارة اليومية لحياة سكانها بالتعليم والتجارة والثقافة والزراعة، فإن هذا يبدو غير كافٍ لنخبة الشمال.
أدى هذا الانقسام إلى تحقيق بلجيكا عام 2010 رقماً قياسياً في مشاورات تشكيل الحكومة، التي استمرت 541 يوماً بعد انتهاء الانتخابات؛ وهو ما دفع البعض في ذلك الحين إلى مطالبة زوجات السياسيين بالإضراب عن ممارسة الجنس مع أزواجهن؛ كوسيلة للضغط عليهم للإسراع بتشكيل حكومة ائتلافية.
أما في انتخابات 2014، فاستمرت مفاوضات تشكيل الحكومة 138 يوماً بعد الانتخابات، وضمت خليطاً متبايناً من الأحزاب، بينهم حزب "التحالف الفلامنكي الجديد" الانفصالي. وكان أساس تعثُّر تشكيل الحكومة هو عدم الاتفاق على كيفية صرف موازنة الدولة.
ومن المتوقع أن تشهد الانتخابات، المزمع عقدها منتصف العام المقبل (2019)، خلافات مشابهة، لا يمكن توقع ما ستسفر عنه هذه المرة.
إقرأ أيضا..