في السنوات السابقة لاندلاع الحرب الأهلية في بيروت، أي قبل العام 1975، كانت العاصمة اللبنانية مشهورةً بثقافة المقاهي النابضة بالحياة المنتشرة على طرقاتها، والتي جذبت المفكرين من أنحاء العالم العربي، بحيث شكّلت نقطة التقاءٍ بينهم.
الطاولات التي انتشرت على طول أرصفة شارع الحمرا كانت، ولسنواتٍ طويلة، مركزاً لتجمُّع الأكاديميين والمثقفين من طلاب وكُتّاب وشعراء وفنانين، بحيث كانوا يمضون لياليهم يتناقشون في قضايا الساحة اللبنانية والعربية، وهم يحتسون القهوة العربية المُركَزة.
وعن تلك الفترة، يقول سيزار نامور (81 عاماً)، وهو جامع قطعٍ فنية في فترة الستينيات، وغالباً ما كان يتردَّد على هذه المقاهي: "هي فترةٌ ساحرة. كان الأمر يتعلّق أكثر بالصحبة والجلسة. اعتدنا أن نلتقي هناك، بعد الذهاب إلى السينما في المساء، لمناقشة أفكارنا".
احتساء القهوة كان أمراً ثانوياً، بالنسبة لروّاد شارع الحمرا، أمام جلسة الأصدقاء حتى الصباح؛ غير أنَّ جيلاً جديداً من صُنّاع القهوة يسعى لاستعادة جزءٍ من هذا التراث، وهذه المرة بالتركيز على القهوة".
انتشرت حول المدينة موجةٌ من المقاهي المتخصِّصة، التي تقدّم خدماتها للذواقين من الشباب الذين يعرفون كيف يفرّقون بين قهوتهم العربية، أو التركية، وبين حبوب القهوة الخشنة "الروبستا".
وتقول داليا جفل (31 عاماً): "الأمر بدأ من حاجةٍ شخصية للحصول على قهوةٍ جيدة هنا". وداليا هي أحد ملّاكي مقهى Kalei في شارع مار مخايل، وهو شارعٌ شهير يغلبه الطابع الفنّي في شرق بيروت.
وأضافت داليا: "نحن نستهلك الكثير من القهوة، لكن الأمر بالنسبة لنا لم يتعلّق قط بجودتها، بقدر ما يتعلّق بجلسة الناس مع بعضها. ولكن رغم ذلك، ليس هناك سببٌ يمنعنا من الحصول على كليهما".
وفقاً لمنظمة القهوة العالمية، سجَّل لبنان أعلى معدّلٍ للاستهلاك الفردي من القهوة بين دول الشرق الأوسط، بنسبةٍ تصل إلى 4.8 كيلوغراماً للفرد الواحد سنوياً. أما في بريطانيا مثلاً، فيبلغ استهلاك الفرد من القهوة، 2.8 كيلوغراماً سنوياً.
القهوة العربية هي الأكثر تناولاً في لبنان، وتشبه القهوة التركية: أكواب صغيرة من سائلٍ مُركَّز مُحلَّى أسود يُغلَى على نارٍ هادئة، ويُنكَّه أحياناً بحبّ الهيل (حسب رغبة الفرد). تُقدَم القهوة العربية للضيوف في المنازل على صوانٍ مزخرفة، وكذلك في المكاتب والورش وأماكن العمل، لكن بطريقةٍ أقلّ رسمية. وحين يُنتهى من احتسائها، تُشكِّل الحبوب المطحونة في قعر الكوب بقايا لزجة حُبَيبِيَّة، يمكن من خلالها لأصحاب الاختصاص قراءة الطالع (ما يُعرف باللهجة اللبنانية بـِ "التبصير").
لطالما اشتهر لبنان بالقهوة العربية. فمقهى "يونس" مثلاً، في شارع الحمرا، هو مؤسَّسة تعمل منذ العام 1935 في بيروت، ولعلّه المقهى الأشهر في المنطقة؛ حتى أنه تحوّل مع مرور الزمن إلى مكانٍ يقصده السيّاح، قبل اللبنانيين.
في السنوات الماضية، تعرَّضت المدرسة القديمة لصنع القهوة إلى ضربةٍ أجنبية، مع وصول سلسلة Dunkin' Donuts إلى لبنان منذ 20 عاماً، سرعان تبعتها سلسلتَيٍ Starbucks وCosta.
وفي السنوات الأخيرة، اكتسب جيلٌ من الشباب اللبناني الآخذ في السفر حول العالم ذوقاً فريداً تجاه قهوة الإسبرسو عالية الجودة، لكن سرعان ما خاب أملهم نتيجة الخيارات المحدودة المُتاحة في لبنان.
وتقول جفل: "كنتُ أعيش في الخارج، وأعود إلى هنا لقضاء أسبوعين، وكنتُ حينها أشتهي تناول النوعية الجيدة".
لذا قرَّرت أن تخوض رحلة تعلُّم كيفية صناعة القهوة وتحميصها، انطلقت من لندن وروما ثم كوبنهاغن. وفي العام 2015، حوَّلت داليا جفل منزلاً – يعود إلى الخمسينيات – إلى محمصة قهوة حملت اسم Kalei، كانت تبيع فقط حبوب القهوة الأصلية إلى المطاعم.
بعدها بعامٍ، فتحت أبوابها للناس. ليصبح Kalei اليوم بقعةً صاخبة تعجُّ بالزبائن، الذين يجلسون في المقهى ذات الديكور الجميل، ويعملون على حواسيبهم المحمولة، بينما تتردَّد أنغام موسيقى الجاز مع الموسيقى الصوفية في الخلفية.
أمَّا مقهى Sip، فقد افتتحه العام الماضي عمر جوهير (39 عاماً)، الذي تعرَّف إلى مذاق القهوة الفريد خلال 20 سنةً أقام خلالها في أستراليا. ورأى فجوةً في سوق بيروت، فافتتح مقهى لذيذاً في شارع الجمّيزة، المجاور لشارع مار مخايل، ويحملان الطابع الفني الثقافي نفسه.
كان يرغب في ابتكار مفهومٍ يركّز على القهوة أولاً، في إطار العودة إلى الأيام الذهبية لثقافة المقاهي في بيروت. ويقول جوهير في هذا السياق: "أشعر بالحنين إلى المقاهي اللبنانية التقليدية، حيث يجتمع الأشخاص من كافة الخلفيات لاحتساء القهوة ومناقشة قضايا الساعة. أريدُ إعادة بناء هذه الثقافة".
أما بالنسبة لنامور، الذي وُلد في العام 1937، فالماضي قد رحل منذ زمنٍ طويل. وفي تعليقٍ على الوضع الحالي، يقول لصحيفة The Guardian البريطانية: "صار الأمر مختلفاً الآن. شباب اليوم يرتادون المقاهي للمزاح والتسلية فقط. في فترة الستينيات والسبعينيات، لم يكن الأمر يتعلّق بقضاء وقتٍ مرح، بل بمناقشة القضايا المصيرية ووضع خطط. كانت أحاديثنا سياسية. في هذه الجلسات. أما الآن، فإن مقاهينا صارت تشبه سائر المقاهي في أنحاء العالم".
إقرأ أيضاً…
اكتشاف "معمل تحنيطٍ" فرعوني عمره 2500 سنة بالقرب من الأهرامات المصرية!
"فن عربي مسروق".. دار فنية إسرائيلية تعرض أعمال فنانين عرب رغماً عنهم