قبل أسابيع، نشرت هيئة الآثار السورية صوراً جديدة تُظهِر الدمار الذي لحق بموقع "مملكة ماري الأثرية". لكن الخبر لم يحظَ إلا بانتباهٍ صحفي محدود خارج سوريا، باستثناء فرنسا، التي يُعرف فيها الموقع أكثر مما يُعرف في أي مكان آخر.
إذ يعمل علماء الآثار الفرنسيون على التنقيب في مملكة ماري منذ العام 1933، وظلت حملة التنقيب تعمل هناك حتى العام 2011 حين اندلع الربيع العربي وجعل الوصول إلى الموقع صعباً وربما مستحيلاً.
القمر الصناعي يعرف ما جرى في 3 أعوام فقط
عندما ظهر ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، سقطت المنطقة التي يوجد فيها موقع مملكة ماري في محافظة دير الزور تحت سيطرته في بداية العام 2014. وتعرض الموقع لحالة من النهب الواسع، كما تقول ماري شيبرسون – الكاتبة بصحيفة The Guardian البريطانية.
تظهر صورٌ تم التقاطها بالقمر الصناعي تغيُّر الحالة من موقع أثري إلى أرض خواء في ظرف شهور معدودة. وتم تسجيل ما يربو على 1500 قطعة تم نهبها من موقع المملكة بين عامي 2013 و2015، وهو ما يحتمل أن يشير إلى إزالة كمية ضخمة من الآثار القديمة وبيعها في أسواق الآثار غير القانونية لتمويل التنظيم وحروبه.
هذه الحالة صارت معروفة وكتب عنها تقارير إعلامية كثيرة.. لكن لم يهتم أحد.
ماري تعرف تاريخ المنطقة في العصر البرونزي
ولسوء الحظ فإن هذه القصة متكررة في عدة مواقع أثرية بالمنطقة، غير أن مملكة ماري ليست مجرد رقم في قائمة. فهي كما توضح شيبرسون، بالنسبة لعلماء الآثار، أحد أهم المواقع الأثرية المُستَكشَفة بالنسبة للمهتمين بفهم المراكز الحضرية العظمى للعصر البرونزي لبلاد ما بين النهرين، أو بسبر أغوار السياق السياسي المضطرب للألفية الثانية قبل الميلاد.
احتضن موقع ماري قصراً منيفاً؛ ويرجع إنشاء أكبر هيكل له إلى ما بين عامي 2500 و2300 قبل الميلاد، وأُعيد ترميم جزء من هذا القصر وحفظه في الموقع، بما وفر فرصة مميزة للتجول في جنبات قصر يعود إنشاؤه إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين، والذي ظل شامخاً بالكامل تقريباً.
لم يعد من الممكن ترميم القصر التاريخي
تعرضت المنطقة التي يقع فيها هذا القصر في الوقت الراهن إلى دمارٍ كبير، كما تصف صحافية The Guardian في تقريرها، فقد دُمّر السقف الواقي له بفعل عاصفة ترابية ضربت المكان في العام 2011، وبسبب الوضع الأمني المتدهور في ذلك الوقت بات من المستحيل إصلاحه.
غير أن الصور التي نُشرت حديثاً تظهر أن أجزاء كبيرة من جدران القصر التي يبلغ سمكها مترين قد انهارت أيضاً. ويعتقد البروفيسور باسكال باترلين الذي قاد حملة الاستكشاف في الموقع التي استمرت حتى العام 2010، أن هذا المستوى من الدمار يشير إلى احتمالية استخدام متفجرات، إما أرضية أو من غارات جوية، والتي أضافت إلى الدمار الذي خلفه النهب لتحقيق مكاسب مالية.
ونشر باترلين ورقة بحثية تفصِّل محنة موقع الملكة ماري في المؤتمر الدولي لآثار الشرق الأدنى القديمة في ميونخ قبل أسبوعين مما أثار حالة عامة من الانزعاج في أوساط الحضور لكن هذا الانزعاج لم يخرج عن الدوائر العلمية والأكاديمية المهتمة بالآثار.
ويشتهر قصر ماري في أوساط علماء الآثار والمؤرخين في صورته القديمة، التي وصل إليها بعد إعادة بنائه في العام 1800 قبل الميلاد، وتوسعته على يد سلالة "ليم". وقدمت حملة استشكاف هذا المبنى أكثر الصور اكتمالاً لحياة قصر ملكي وطريقة سير الأمور في مدن العصر البرونزي. ويرجع هذا جزئياً إلى الحفاظ على معمار المكان والتنقيب في غرفه الثلاثمائة كلها تقريباً، ويعود أيضاً إلى 25 ألف لوح مسماري تم استخراجه أثناء التنقيب، معظمها من إنتاج هذا العصر.
علاقات تاريخية متوترة للمملكة مع الجيران
تُظهِر النصوص المحفورة على الألواح أسماء حكام مملكة ماري، وتقدم تفاصيل ثرية عن المدينة وشعبها، وفتحت نافذة لم يسبق فتحها للاطلاع على سياسة الشرق الأدنى القديم والدبلوماسية المتبعة فيه من خلال الاحتفاظ بخطابات ملكية متبادلة بين ملوك ماري وحكام الممالك المجاورة.
ما تشهده منطقة مملكة ماري الآن، بحسب شيبرسون، ليس جديداً على تاريخها فحكمها لم يكن بالأمر الهين؛ إذ كانت المدينة محاطةً بممالك أكثر قوة وعانت اضطرابات داخلية عديدة. وقُتل الملك "يجيد ليم" على يد خدمه، بينما اغتيل الملك "يخدون ليم" على يد ابنه، الذي اغتيل بدوره بعد أن حكم لمدة لم تتجاوز العامين. وأكثر ملوك ماري شهرة هو الملك "زيمري ليم"، أحد الملوك المعاصرين لحمورابي ملك بابل الذي اشتهر بأنه أول من سنَّ القوانين بصورتها الحالية.
أما الملك "زيمري ليم"، الذي يبدو أن والده اغتيل أيضاً على يد بعض الخدم الخونة، فقد انتزع المملكة من سلالة ملكية منافسة. وتزوج الأميرة "شيبتو" من مملكة "ياماد"، ومقرها كان في موقع مدينة حلب، وأنجبا ثماني بنات على الأقل، وعاشت الخطابات التي تبادلها الملك وبناته إلى يومنا هذا لتعكس علاقة أبوية دافئة ووثيقة.
كان زيمري ليم أقل توفيقاً في علاقته بحمورابي؛ فبعد أن كان حليفاً لبابل في حروبها مع مملكة عيلام ومدينة لارسا، تدهورت العلاقات الدبلوماسية بين الملكين تدريجياً، وانتهى الأمر إلى حشد الجيش البابلي عام 1761 قبل الميلاد لغزو ماري. من المستحيل أن نعرف مقدار ما نهبته داعش من تاريخ هذه المدينة المسطور على الألواح التي بيعت لتمويل القتال.
القصر الشهير تحول إلى مجموعة من الحفر
اختفى زيمري ليم من سجل التاريخ حين سقطت المدينة، ربما لأنه لم ينجُ من براثن المعركة، غير أن قصره صمد على مر العصور وفي جعبته سجلات تؤرخ لفترة حكمه التي استمرت 14 عاماً.
وللقصر الذي شيده ملوك ماري بريقٌ خاص، حيث تشير النصوص الدبلوماسية إلى أنه كان مشهوراً في هذا الزمن باعتباره واحداً من بين أكثر القصور الملكية فخامة وضخامة، بما أثار غيرة الحكام الآخرين.
وزُرِعَت الباحات الضخمة بأشجار النخيل وطُلِيَت الجدران برسومٍ بارزة وتصميماتٍ ديكورية رائعة، من بينها جدارية لتنصيب زيمري ليم على العرش، وتُعرَض حالياً في متحف اللوفر. واحتوى معبد القصر على تمثالٍ بحجم الإنسان للإلهة، كان محفوراً داخل الأرض لحد يسمح للمياه بالجريان من عنق المزهرية المحمولة بين يدي الإلهة.
ولسوء الحظ تحول معبد القصر وجميع غرف الاستقبال الملكية إلى مجموعة من الحفر التي خلفها من نهبوها.
ولا أحد يهتم بأخبار الدمار الثقافي في الشرق الأوسط
من دواعي خيبة الأمل أن تدمير القصر ونهب الموقع سعياً للحصول على الألواح وغيرها من الأشياء التي يمكن بيعها لم يلقَ الكثير من الاهتمام، كما تقول شيبرسون. والتفسير الأول الذي تقدمه لحالة اللامبالاة هذه، هو أن الدمار الثقافي في منطقة الشرق الأوسط قد اتسع لدرجة لم يعد معها ينظر إليه باعتباره أمراً جديراً بالاهتمام أو بنشر أخباره إلا في الحالات القصوى، وهي فكرة تدعو إلى البؤس.
أما العيب الآخر في موقع ماري والذي يميزه عن غيره من المواقع المهمة مثل مملكة تدمر هو أن مبانيه صُنِعَت من الطين وليس الحجر الكلاسيكي الذي يخرج أنقاضاً تسترعي انتباه المصورين وتفرض أهميتها الفنية على الجمهور من غير المختصين في الآثار. ومع ذلك، لا يزال موقع مملكة ماري يستحق أن يعد من ضمن الخسائر كغيره من المواقع الأخرى التي عانت أثناء القتال مع داعش.