من إنكلترا، ذهب تشارلز سيدني غيبيس إلى سانت بطرسبرغ بروسيا، في العام 1901، لتدريس اللغة الإنكليزية، وبحلول العام 1907، أصبح نائب رئيس لجنة نقابة معلمي اللغة الإنكليزية في سانت بطرسبرغ.
لفت انتباه الإمبراطورة ألكسندرا بمواهبه في اللغات، فتمت دعوته في العام 1908 كمعلم لتحسين لهجات أولادها ورثة العرش، فأصبح بعد سبع سنوات المعلم الشخصي للأبناء الخمسة للقيصر الأخير للإمبراطورية الروسية نيكولاس الثاني.
كان غيبيس يبلغ من العمر 25 سنة فقط حينما وصل روسيا، لكنه ظلَّ بجوار العائلة الملكية، حتى في مارس/آذار 1917، حين أُجبر القيصر على التنازل عن العرش. وكان الشاهد على أحداث سياسية مهمة، بينها نفى آخر أسرة من آل رومانوف (أغسطس/آب 1917).
حكم آل رومانوف الإمبراطورية الروسية أكثر من ثلاثة قرون، ثم أعُدموا على يد الثوار لاحقاً.
من أروقة الجامعة إلى ساحة الثورة البلشفية
بعد تخرجه في جامعة كامبريدج البريطانية، قرَّر تشارلز سيدني غيبيس، ابن مدير بنك في روثرهام، في مقاطعة يوركشاير في شمالي إنكلترا، الذهاب لروسيا لتدريس اللغة الإنكليزية في الخارج، فعاش قصةً استثنائيةً كمعلم العائلة الإمبراطورية، حسب تقرير نشره موقع BBC Mundo الإسباني.
وفي 25 أكتوبر/تشرين الأول 1917، بينما كان قريباً من عائلة القيصر، قامت الثورة الروسية البلشفية بإمرة فلاديمير لينين، وقائد الجيش الأحمر ليون تروتسكي، لإقامة دولة اشتراكية أسفرت عن قيام الاتحاد السوفيتي.
ألُقي القبض على القيصر، بعد أن كان تنازل عن الحكم لأخيه، ووضعت الأسرة تحت الإقامة الجبرية. وبعد نجاح الثورة البلشفية، قرَّر الثوار الحمر التخلص من الأسرة القيصرية بالكامل، حتى لا تكون هناك عودة للوراء.
وفي 17 يوليو/تمّوز 1918، أعدم البلاشفة نيكولا الثاني وزوجته وابنه وبناته الأربع، وطبيب العائلة، والخادم الشخصي، ونادلة الإمبراطورة، والطاهي؛ كان غيبيس أول أجنبي يرى مسرح حادثة الإعدام.
انتهت قصته كمعلم عائلة القيصر بنفي العائلة الإمبراطورية إلى سيبيريا، في مايو/أيار 1918. تم نقل القيصر وعائلته إلى قرية إيكاترينبرغ النائية، في منزل التاجر نيكولاي إيباتيف.
كانت تلك هي الرحلة الأخيرة لآل رومانوف.
بعد ذلك، أصبح كاهناً للكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي تحوّل لمذهبها. وفي سيبيريا، تم تعيين غيبس كسكرتير للمفوضية العليا البريطانية، بعد أن سيطر عليها الجيش الأحمر. انتقل لاحقاً إلى الصين وعمل لفترة وجيزة في السفارة البريطانية في بكين، ثم أصبح مساعداً في الجمارك البحرية الصينية في منشوريا.
عند عودته إلى المملكة المتحدة، رغبة في تأسيس "المنظمة الأنغلو الأرثوذكسية"، اشترى منزلاً وأقام به كنيسة أرثوذكسية في مدينة أكسفورد البريطانية. وضع في الكنيسة الأيقونات والتذكارات للعائلة الإمبراطورية التي جلبها معه، ووصف لاحقاً بأنه أول أرثوذكسي بريطاني لحوالي ألف عام.
واحد من أفراد العائلة الإمبراطورية
تقدم مذكرات غيبيس معلومات كثيرة عن السنوات التي سبقت إعدام رومانوف والبيئة السياسية في ذلك الوقت.
تحدث عن إصابة أليكسي، الابن الوحيد للقيصر، بالهيموفيليا؛ وهو اضطراب وراثي يمنع تجلط الدم بشكل طبيعي. يسمى نزف الدم الوراثي أيضاً بـ "داء الملوك"، لأنه كان سائداً عند عوائل الأُسر الحاكمة. نقلت الملكة فكتوريا المرض إلى ابنها، وعن طريق بناتها انتقل هذا المرض إلى الأُسر الحاكمة في إسبانيا وألمانيا وروسيا.
وكتب غيبيس "كان لأليكسي عادة مزاجٌ سيئ للغاية في فترة ما بعد الظهر، كنت أقرأ له، لكنه لم يكن يعيرني الانتباه".
كما حملت مذكراته بعض التفاصيل السياسية، مثل تعبئة أغسطس/آب 1914، التي كانت بداية الحرب العالمية الأولى، ثورة فبراير/شُباط عام 1917، وما تبعها من سقوط عائلة رومانوف.
وكتب يقول على سبيل المثال "الجميع متوترون جداً بسبب تطور الأحداث، لم يكن القيصر يعرف أي شيء، لكنه كان يستشعر الخطر".
يقول غيبيس بافلييف، حفيد غيبس: "كانت تلك هي آخر مرة رآه فيها جدي. رافقه إلى منزل التاجر، لكن لم يُسمح له بالدخول".
في ذلك المنزل، تم إعدام القيصر نيكولا الثاني، وزوجته تسارينا ألكسندرا وأطفالهما الأربعة، الدوقة الكبرى أنستازيا وماريا وأولغا وتاتيانا، والابن الوحيد أليكسي، إلى جانب بعض الخدم.
تم إيقافهم في صفٍّ واحد، لالتقاط صورة تثبت للناس أنهم على قيد الحياة.. ولكن بدلاً من ذلك، تلقوا وابلاً من الرصاص، وفقاً لشهادة شهود عيان.. لم تمت الفتيات على الفور، فقام المسلحون بطعنهن بالحراب.
أُعدم آل رومانوف في الطابق السفلي من مسكن التاجر نيكولاي إيباتيف في إيكاترينبرج، في وسط غرب روسيا.
سجل غيبيس في مذكراته كل ما شاهده.
يقول الحفيد لموقع BBC mundo : "لا بد أن ذلك كان مريعاً؛ أن يسير عبر تلك الغرفة، وأن يرى كل تلك الثقوب التي خلفتها طلقات الرصاص.. وكل تلك الدماء. أطلق البلاشفة الرصاص على رأس القيصر، ثم أركعوا الجميع على ركبهم وأطلقوا النار عليهم".
هذا الرعب الذي عاشه غيبيس سيؤثر على حياته لاحقاً حتى وفاته في عام 1963، عن عمر ناهز السابعة والثمانين.
بعدما عاد غيبيس إلى المملكة المتحدة بصورة نهائية في الثلاثينات، تفرغ لحياته الدينية باسم الأب نيكولا، تكريماً لآخر القياصرة الروس. ملأ كنيسة صغيرة في أكسفورد بذكريات ومقتنيات جمعها خلال فترة وجوده مع آل رومانوف، محاولاً إعادة ما لفظته روسيا وراءه.