زمنان وشخصيتان داخل رواية، تحاول أن تصنع جسراً خيالياً بين زمن معاصر وآخر قديم، وبين شخصية مهمومة بالوطن وأخرى منعزلة عنه، متوحِّدة مع قضيتها الخاصة.
هذا ما حاولت رواية "خريف البلد الكبير" للكاتب محمود الورواري أن تفعله.
صندوق نُحاسي بداخله رسائل ومخطوطات تاريخية، وصلت إلى السفير المصري "رشدي الشيخ"، في زيارة قصيرة له إلى القاهرة. لم يكن يتخيل للحظة واحدة أن هناك مفاجأة في انتظاره ستُجبره على إعادة النظر في مشوار حياته، وترتيب أولوياته من جديد.
كانت المفاجأة هي هذا الصندوق الذي حمله إليه صديق دراسته الجامعية "سليم"، لعلمه بشغفه القديم بعلم الآثار.
يحمل "رشدي" الرسائل ويذهب إلى الإسكندرية للقاء عالم آثار يدعى "عبدالنبي الهادي"، يتولَّى ترجمة تلك الرسائل، وقراءة المخطوطات بمساعدة عالم آثار آخر هو الدكتور "فراج البيومي".
يعقد الاثنان جلسات عمل طويلة، يتابعها رشدي، ويقرأ ما تمت ترجمته بشغف، جعل منه الكاتب "محمود الورواري" نقطة الانطلاق الحقيقية لأحداث روايته الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية في العام 2017، التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد الأدبية في العام نفسه.
الرواية التي تتحرك بين حلم شخصي لسفير مصري باستعادة حياته بعيداً عن قيود المنصب الحساس، وحلم بالتغيير، واستعادة تاريخ حضارة تلاشت؛ ترصد بسرد غير مباشر ما جرى في مصر، بعد 25 يناير/كانون الثاني 2011، من دون أن تتورط في السرد المباشر لأحداث تلك الثورة.
قصتان بين الأحلام والشيخ
سرعان ما يدرك القارئ أنه بصدد قراءة حكايتين مختلفتين في الزمن والأحداث داخل رواية واحدة؛ تروي الأولى حكاية "رشدي"، السفير الذي شغلته الحياة العملية ومهام منصبه المرموق عن واجباته الاجتماعية، حتى داخل القرية وتجاه أقاربه بها، الذين نشأ في رعايتهم، وتناسى واجباته تجاههم تماماً.
في هذه الحكاية نعيش أحلامَ الشاب رشدي الخاصة، وأحلامه وصحبته المتعلقة بالوطن، الذي عبَّر من خلاله الكاتب عن أحلام أجيال سابقة -وربما لاحقة أيضاً- تعيش ممزقة بين الانشغال بقضايا الوطن والإخلاص للمبادئ، وبين الأحلام الشخصية وتحقيق المكانة الاجتماعية، التي تضمن الحد الأدنى لحياة آمنة في أوطان لم تعرف الاستقرار.
ينتقل الكاتب بلغة دقيقة وسرد سريع إلى الحكاية الثانية الآتية من أعماق التاريخ، يروي لنا قصة حضارةٍ قديمة أسَّسها رجلٌ يدعى "الشيخ الكبير"، سعى إلى تعميرها بالتجارة والصناعة والذرية من الأبناء والأحفاد، وضع لها القوانين التي تُنظم الحياة، وجيشاً كبيراً لحمايتها، حتى تحقَّق الحلم، وأصبح بلداً كبيراً سرعان ما تنازع على ملكه الأبناء، بعد أن تلاعبت بهم يد الخيانة.
وكانت النتيجة زوال هذا الملك، وسقوط تلك الحضارة، وضياع أثرها إلى الأبد، فيما عدا تلك الرسائل التي كتبها "خلدون"، مؤرخ تلك الدولة، في إشارة من الكاتب إلى أن التاريخ باقٍ وشاهد على الأحداث إلى الأبد.
العودة للجذور.. استعادة الحق الضائع
يكتشف القارئ بمرور الأحداث الهدفَ من وراء الصدفة التي جمعت رشدي بطل الرواية بأوراق الحكاية القديمة.
فقد استطاعت تلك الأوراق أن تعيده إلى ماضيه الشخصي، حين قرَّر العودة إلى قريته، واسترداد الأرض التي انتُزعت من والده في الماضي، مثلما استطاع التخلص من قيود المنصب، والبحث عن ذاته البسيطة والحياة بدون بروتوكولات رجال السياسة.
سيكتشف القارئ أن تلك الأوراق القديمة تقدم نبوءة وتحذيراً لجيل ثورة "25 يناير 2011"- حيث دارت أحداث الرواية- من يد الخيانة التي تستطيع أن تنتزع منهم هذا النضال وتنسبه لنفسها، وقد لا تكتفي بذلك، بل ربما تتهمهم بخلق الفوضى والتآمر على الوطن، وهذا ما حدث بالفعل.
الثورة اسمها فاطمة
جرت العادة حين ننتقل في القراءة بين حكايات التاريخ وبين الحاضر أن نرغب في قراءة الجزء الخاص بالتاريخ والعودة إليه بسرعة، لكن الكاتب في هذه الرواية استطاع أن يفعل العكس.
فحين يبدأ في سرد الماضي تشعر برغبة في العودة إلى الحاضر، ومن خلال هذه النقطة يثبت للقارئ أن الحاضر هو الأولى بالاهتمام، والسعي إلى التغيير، قبل أن يمر الوقت ويتحول الحاضر إلى زمن مضى، لا نملك تجاهه سوى الندم.
على الرغم من أن أحداث الرواية تدور في فترة ما بعد الثورة مباشرة، فإن الكاتب لم يتحدث عنها بشكل مباشر، بل أشار إليها من خلال التغيرات التي حدثت للقيادات في مصر في ذلك الوقت، التي دفع ثمنها بطل الرواية، حين تم استبعاده من منصبه.
الإشارة إلى أبناء تلك الثورة وثوارها تأتي من خلال "فاطمة"، الفتاة التي التقاها البطل في قريته، واصطحبها إلى القاهرة لتحصل على عمل مناسب في وزارة الخارجية.
"فاطمة"، كما وصفها البطل، تحمل ملامح والدتها الراحلة، ولكن بروح ووعي هذا الجيل؛ في إشارة إلى جيل يحمل أعباء الماضي، ويدرك أخطاء الجيل السابق، لكنه استطاع الثورة والتمرد.
الخيانات والتآمر وراء سقوط الحضارات
تنتهي أحداث الرواية بتخلي السفير "رشدي الشيخ" عن مظاهر حياته السابقة كرجل دبلوماسي، والحصول على عمل حر، ليعيش تلك الحياة التي ابتعد عنها طمعاً في المنصب والمكانة الاجتماعية، بالإضافة إلى ترجمة تلك الرسائل وفكّ طلاسم المخطوطات القديمة.
ولكن على الرغم من تلك الترجمة ظلَّت الحقبة التاريخية التي شهدت تلك الحضارة غير محددة، ولم يعرف أيضاً عن أي بلد تتحدث تلك الأوراق؛ ليكتشف القارئ أنه بصدد أحد أهم أهداف الرواية، وهو أن تلك الحقبة التاريخية التي أُطلق عليها اسم "البلد الكبير" كناية عن حضارات عديدة، شهدت الازدهار وسرعان ما تهاوت بسبب الخيانة والتآمر والطمع في السلطة، بالإضافة أيضاً إلى العديد من الدول العربية، وغير العربية، التي دنَّستها أقدام الاحتلال، وحاولت تشويه تاريخها.
يتركنا الكاتب أمام سؤال مهم: هل من الممكن تصحيح أخطاء الماضي؟!
تكمن الإجابة في أحداث الرواية، التي تنطق بـ"نعم". نستطيع حين نتجنَّب تكرار أخطاء الماضي، فأسباب السقوط واحدة… لكننا لا نقرأ التاريخ، ولا نبحث بين طياته لنعتبر.
لذلك قرَّر البطل أن يجمع أحداث حياته الشخصية والحكاية التاريخية القديمة في عمل روائي باسم "خريف البلد الكبير".
الكاتب محمود الورواري: إعلامي وأديب، صدرت له أعمال تنوعت بين الرواية والقصة القصيرة والمسرحية، أبرزها رواية "حالة سقوط"، التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر، ومسرحية وجع الأمكنة. عمل كمذيع ومقدم برامج في عدد من القنوات الفضائية. عاد ليستقر في مصر منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، ويقدم برنامج "الحدث المصري" على قناة العربية.