لا تنسوا عاصمة الاغتيالات العربية.. مر عليها الفينيقيون واليونانيون والرومان والعثمانيون.. إليك جولة مجانية

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/08 الساعة 09:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/08 الساعة 09:35 بتوقيت غرينتش

وصل المتفرجون مُرتدين أحذيةً مُلائمة، يحملون زجاجات المياه والكاميرات والوجبات الخفيفة كما لو أنَّهم سيخوضون جولتهم التاريخية في روما أو باريس أو لندن. لكن قبل انطلاقهم، حذَّرهم المرشد السياحي ضاحكاً: "ليس هناك تأمينٌ على هذه الجولة، وهذا ما يجعلها جولةً لبنانيةً حقة".

وعلى مدار الساعات الأربع التالية، أشار المرشد السياحي روني شطح إلى المواقع المرتبطة بالحرب الأهلية اللبنانية، وتحدث بثقةٍ عن التظاهرات وعمليات الاغتيال التي تصدَّرت المشهد في تاريخ المدينة الحديث، ووصل به الأمر إلى أن أطلع زواره على البقعة التي يُحتمَل أن تكون، أو لا تكون، مسقط رأس الممثل كيانو ريفز، وفق ما ذكرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.

وتهدف الجولة، التي يقودها شطح بعد ظُهر كل يوم أحد، إلى إعادة إحياء ثقافة وتاريخ عاصمةٍ شرق أوسطيةٍ، أصبحت معروفةً عالمياً بالحروب وعمليات الاغتيال أكثر من معمارها وآثارها.

ويُلقي الرابط المؤلم بين شطح وتاريخ المدينة بظلاله على الجولة ليمنحها لمسةً من الجدية والوقار. ففي عام 2013، لقي والده، محمد شطح -وزير المالية السابق وسفير لبنان لدى الولايات المتحدة- مصرعه في انفجار سيارة مُفخَّخة على بُعد مسافة سيرٍ قصيرةٍ من الموقع الذي يقود فيه شطح الابن جولاته الآن.

وعند ذكره مصرع والده في أثناء الجولة، يُشير إلى موقع قبره القريب من مسجدٍ وسط المدينة، دون الاستغراق في الفكرة، مع الإحجام عن إلقاء اللوم على أحدٍ؛ بحثاً عما يُسميه "حكايةً موضوعيةً لماضي مدينةٍ معقدة".

ويقول: "أصعب شيءٍ يُمكنك فعله هو الوصول إلى تاريخ بيروت. وإن مشيت وحيداً، فستفوتك القصة الكاملة".

والتاريخ رحب نوعاً ما؛ إذ كانت بيروت، المدينة المُطِلَّة على البحر المتوسط ويقطنها 2.2 مليون نسمة، موطناً للفينيقيين واليونانيين والرومان والعرب وغيرهم على مر القرون. ويمتلئ القرن الأخير وحده بأحداثٍ شملت العثمانيين والفرنسيين والفلسطينيين، وحرباً أهلية استمرت 15 عاماً، وحرباً بين إسرائيل وحزب الله، وتدفقاً ضخماً للاجئين من سوريا المجاورة. لكن جميع هذه الأحداث تفتقد الاحتفاء الشعبي بها.

بين مطرقة التجاهل وسندان التجريف

وتقبع معظم المواقع التاريخية في المدينة بين مطرقة التجاهل دون علاماتٍ تدُل عليها، وسندان التجريف من أجل إفساح الطريق أمام بناء المباني السكنية. وتوجد ندوب الحرب الأهلية، التي انتهت عام 1990، في كل مكان، وخصوصاً الثقوب الناتجة عن طلقات الرصاص وآثار الشظايا على المباني. لكن تاريخ الصراع لا يُدرَّس في المدارس؛ لأنَّ الموضوع لا يزال خلافياً وحساساً للغاية من الناحية السياسية والعاطفية.

وتُعتبر جولة شطح جهداً مُتواضعاً لعلاج هذه الحالة من فقدان الذاكرة التاريخية، ويمكن لأي شخصٍ يمتلك 20 دولاراً و4 ساعاتٍ خاليةٍ بعد ظهر يوم الأحد أن يشارك فيها.

هذا الأسبوع، تجمَّع عشرات الأشخاص داخل ساحةٍ في الجانب الغربي من المدينة، بالقرب من مكتب شركة طيران ومقهى؛ استعداداً لبدء الجولة. وضمَّت المجموعة عدداً من الأجانب والمواطنين المحليين: زوجان سويديان مع ابنيهما، وبعض عُمال الإغاثة الإيطاليين، ومهندسٌ في شركة الطيران الوطنية اللبنانية، وبعض المصرفيين البريطانيين الذين يقضون عطلتهم، وامرأة ذات شعرٍ أزرق.

وبعد المقدمة، قاد شطح الطريق الذي يمُر بـ13 موقعاً، ليُشير إلى المعالم ويسرد القصص ويشرح جذور مزايا لبنان العجيبة. وعلى أعتاب البنك المركزي مثلاً، شرح كيف انهارت عملة البلاد في أثناء الحرب الأهلية ووصل الحال بها إلى أن بلغت قيمة الدولار الواحد نحو 1500 ليرة لبنانية، وهو السعر الذي ما زال قائماً حتى الآن.

صداع بيروت الأعظم

ومرَّت المجموعة أمام الكنيسة الأرمنية الإنجيلية الأولى، حيث تحدث شطح عن الشتات اللبناني -إذ تزيد أعداد اللبنانيين المغتربين على أعداد اللبنانيين الذين يعيشون داخل البلاد- بالإضافة إلى النظام السياسي المعقد للبلاد والطوائف الدينية الـ18 المُعترف بها.

وعلى مسافةٍ قريبة، أشار شطح إلى منزل العائلة الخاص، الذي تحوُّل إلى مستشفى طراد، وهو المكان الذي يعتقد -دون تأكيدٍ واضح- أن ريفز، الممثل، وُلِد فيه.

وفي أثناء وقوفه بين قصرٍ تاريخيٍ مُرمَّم بشكلٍ جميل ومنزلٍ قديمٍ مُتداعٍ وسط منطقة مليئة بالأعشاب، شرح شطح أسباب التفاوت الكبير في معدلات التطور بالمدينة. وكانت النزاعات بين الأقارب البعيدين سبباً في الحيلولة دون الوصول إلى التوافق اللازم لبيع الممتلكات، وافتقدت الحكومة السلطة الكافية لإعلان سيطرتها الحازمة والتدخل.

والمثال الأكبر على هذا النوع من النزاعات على الممتلكات، وفقاً له، يشمل فندق هوليداي-إن بيروت؛ إذ وصفه بـ"الصداع الأعظم الذي نعانيه في هذه المدينة، الصداع الذي لا يُمكننا حله".

إذ صاحبَ افتتاحَ الفندق الضخم، المكون من 26 طابقاً، عام 1974 ضجةٌ إعلاميةٌ كبيرةٌ، لكنَّه أغلق أبوابه في العام التالي بعد اندلاع الحرب الأهلية وانتقال المسلحين للإقامة به؛ من أجل استغلال إشرافه على وسط المدينة من الأعلى. وانتقل ياسر عرفات، زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، للإقامة داخل الفندق مدة من الوقت قبل إخراجه منه، وكافح الكثير من المقاتلين للسيطرة على المبنى أو قصف أعدائهم المُتحصِّنين داخله.

وأقام ياسر عرفات، زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، داخل الفندق مدةٍ من الوقت قبل إخراجه لاحقاً، بينما حارب غيره من المقاتلين في المدينة للسيطرة على المبنى أو تفجير أعدائهم المحتجزين بالداخل.

ويقول شطح إنَّ المبنى الآن هو عبارةٌ عن هيكلٍ خرسانيٍ عالٍ يحتوي على ثقوب طلقات الرصاص، ولم ينجح المُلَّاك في التوصل لاتفاقٍ حول بيع أو تطوير الموقع. ويضيف: "إنَّهم ينتظرون عودة الاستقرار إلى لبنان مرةً أخرى. ولا أعتقد أنَّ هذا سيحدث".

الحي اليهودي القديم

ومن بين المحطات الأخرى، يُوجد الحي اليهودي القديم، وهو الآن منطقةٌ أمنيةٌ مشددة يعيش فيها رئيس الوزراء، سعد الحريري. والأثر الوحيد في لبنان لليهود، الذين غادر معظمهم البلاد بعد الحرب التي اندلعت بسبب إقامة دولة إسرائيل، هو كنيس ماغين أبراهام، وهو مبنى أبيض اللون مُقلَّم بالأصفر والحروف العبرية فوق المدخل.

ونظراً إلى الحساسيات المتعلقة بأي شيءٍ مُرتبطٍ باليهودية وإسرائيل، لا يُفتَح الكنيس للعامة، ولا يمكن رؤيته حتى من الشوارع العامة.

سياحة الصراع

ومع قرب نهايتها، توقَّفت الجولة في ميدان الشهداء، وسط المدينة المختنق مرورياً. وقصَّ شطح على مجموعة جولته أنَّ هذا المكان شهد إعدام العثمانيين العديد من الناس، بالإضافة إلى التظاهرات ضد الحكم الفرنسي.. وبعد ذلك بوقتٍ طويل، التظاهرات المؤيدة والمناهضة لوجود الجيش السوري في لبنان.

وخاضت الجولة نفسها في أمواج معاناة بيروت.

وبدأ شطح جولاته أواخر العقد الأول من الألفية الجديدة، حين كان السياح المسافرون بين إسطنبول والقاهرة ودمشق عادةً ما يتوقفون ببيروت. وسرعان ما أصبح يقود جولاته 7 أيامٍ في الأسبوع، وفقاً لما يقول.

لكن بعد اندلاع الصراع السوري عام 2011، ضربت المدينة موجةٌ جديدةٌ من التفجيرات والاغتيالات، وتقلَّصت الأعمال التجارية وحلَّ عمال الإغاثة تدريجياً محل السياح.

يقول شطح: "لقد ركبتُ الأفعوانية، التي انطلقت من السياحة وصولاً إلى سياحة الصراع".

بعدها، لقي والده مصرعه في الـ27 من ديسمبر/كانون الأول 2013؛ وهو ما دفعه لمغادرة البلاد وقضاء بضع سنواتٍ في أسكتلندا بين الكتابة والرثاء.

وأضاف أنَّه، ومثل سائر الاغتيالات في لبنان، لم يُفتح تحقيقٌ أو يُقبض على أي شخصٍ بتُهمة قتل والده. لكنَّ بُعده ساعده على إدراك مدى حبه لبيروت، بطريقةٍ لم يعرفها من قبل. لذا، عاد العام الماضي وسرعان ما استأنف جولاته، واعتبرها تكريماً لروح والده.

عرف معظم الناس في هذه الجولة تاريخ شطح جيداً، لكنَّهم قالوا إن ذلك لم يُؤثِّر كثيراً على طريقة عرضه لتاريخ المدينة.

تقول روزي راجي، التي شاركت في الجولة مع 6 آخرين من أصدقائها اللبنانيين: "جميعنا يمتلك تاريخاً شخصياً هنا. وتاريخه الشخصي ليس مهماً بقدر الطريقة التي يروي بها القصة".

علامات:
تحميل المزيد