لا تقدّم إيناس العباسي في روايتها الجديدة "منزل بورقيبة" الصادرة عن دار الساقي قصّة مدينة كما قد يتبادر إلى الأذهان للوهلة الأولى، إنما تكتب قصّة حياة كاملة لا ينفصل فيها المكان عن الأشخاص وعن الزمن.
وهي تستثمر في ذلك بعمق ثراء تجربتها في القصة القصيرة فأحداث هذه الرواية تتكثف في مدّة قصيرة لا تتجاوز الشهر الواحد، هي الفترة التي تبدأ بوصول نبأ وفاة "حبيب الياس" المهاجر إلى أميركا منذ سنوات وتنتهي بقرار ابنته جيهان الفرار من وصيته والعودة إلى سالف حياتها في العاصمة، وخلال فترة انتظار الجسد القادم من شيكاغو إلى منزل بورقيبة تسترجع جيهان جزئيات متناثرة من حياة والدها حبيب وعمها نور الدين وعماتها وزوجة أبيها وجدتها وأمها فتصبح الرواية أشبه بالدمية الروسية التي كلما فتحتها وجدت داخلها دمية أخرى، وهكذا دواليك إلى النهاية.
لا ينتظر القارئ طويلاً حتى يجد نفسه أمام بؤرة الصراع التي يتوقع أن تتأسّس عليها حيل سردية تستخدمها الكاتبة للإيقاع بالقارئ واستدراجه إلى عالمها الروائي الخاص، فلحظة البداية تقع بعد أسبوعين من موت "حبيب الياس"، وتحديداً في مكتب المحامي حيث تكتشف جيهان التي تضطلع بوظيفة الراوي في مفتتح النص وصية والدها المتوفى حديثاً، وتُصدم زوجتُه صوفيا فتغادر المكتب بتشنج قائلة: "هذه الوصية باطلة وسأفعل ما بوسعي لإلغائها"، لكن في الوقت الذي يتوقع فيه القارئ أن تمضي أحداث الرواية في اتّجاه الإمام لتكثيف المواجهة بين جيهان وزوجة أبيها لا يحدث شيء من هذا، ويعود بنا الرواة في سرد "بوليفوني" متعدّد الأصوات إلى أزمنة البداية، بداية كل واحد منهم، لإعادة كتابة سيرة حبيب إلياس وقصة سفره إلى شيكاغو؛ حيث سيتزوج من صوفيا بعد وفاة "روي" الذي فتح لها أبواب الحلم الأميركي على مصراعيها.
تعود الحكاية إلى الوراء لتغوص في التفاصيل وتؤسس هذا السرد الاستعادي على النحو الذي تجري به السير الذاتية، أما عن بذرة الصراع الأولى التي انفتحت بها الرواية فسيكون من السهل تجاوزها دون مواجهة في النهاية عندما تقرّر جيهان التخلص من كل ما يربطها بوالدها والعودة إلى حياتها لمواجهة العاهات النفسية التي خلفتها لها علاقتها المعطوبة به.
لكن منزل بورقيبة ليست فقط حكاية بسيطة عن علاقات عائلية مفتّتة يجري سردها على ألسنة شخصيات متقابلة (جيهان، صوفيا، العمة.. الخ) في سياق دراما اجتماعية تاريخية عادية، فالمتأمل يدرك بيسر أنها رواية رمزية بامتياز، هي رواية عن الأب بكل أبعاده التاريخية والفلسفية والذهنية، وليس اختيار اسم المدينة كما أرادها الزعيم التاريخي "الحبيب بورقيبة" عنواناً لهذا النص إلا تجسيداً لهذه الخلفية الواقعية المجسّدة للبطرياركية السياسية والذهنية. منزل بورقيبة التي تحمل اسم أب الأمة حملت من قبل ذلك أسماء متعددة وأصبحت تعرف باسم شيكاغو الصغيرة، في إشارة إلى تنامي ظاهرة العنف بها، كما أن وضعها في مقابل شيكاغو الأميركية في سيرة حبيب ونور الدين وصوفيا يقدّم مقاربة إبداعية جديدة لثنائية الشرق والغرب التي تمثل تيمة كلاسيكية في الرواية العربية، جسدتها إيناس العباسي في مقابلة ذكية بين "الحلم الإفريقي" الذي عاشته صوفيا مع زوجها الأميركي العجوز "روي" و"الحلم الأميركي" الذي يلخص علاقتها بحبيب الياس، أما الخلفية الزمنية فتؤكد هذا الطابع الرمزي؛ حيث تجري أحداث موت الأب ودفنه وقراءة وصيته ومحاولة تعقب طريقه وتمثل صورته في الفترة التي قامت فيها ثورة الحرية والكرامة في تونس، مُسقطة بعنف مدوّ نظاماً استبدادياً عتيداً، ولعل في تخلّص جيهان من صورة الأب ورمزه وثروته تماهٍ مع حالة الانعتاق العارمة التي أعقبت الثورة.
منزل بورقيبة، رواية متعدّدة أصوات الرّواة فيها ومتعدّدة مستويات السّرد، ففي المستوى الأول سرد واقعي لا شيء يمنع وقوعه في الحياة على النحو الذي يمكن أن يوجد في كل البيوت، فوراء كل باب حكاية، ووراء كل وجه عابر في الزحام قصّة.
وفي المستوى الثاني سرد لتفاعلات نفسية جراء "جدلية الخفاء والتجلي" التي سلّطها حبيب إلياس على ابنته جيهان فجعلها تعيش حياتها كاملة في رحلة بحث مضنية نفسياً ورمزياً ولا تتوقّف إلا عندما يعود إليها جسداً مُسجّى في انتظار الدفن، أما المستوى الثالث فمستوى الرمز الذي تُمثل فيه شخصيّات الرّواية أجيالاً مختلفة من المجتمع التونسي تتخبط في أزمة هوية حادة، وتتكثّف هذه الأزمة مع الجيل الذي تمثله جيهان في حالة اليتم الثقافي والسياسي والحضاري الذي عبّرت عنه في الواقع ثورة 14 جانفي بما يبرّر أكثر حضورها في خلفية النص الزمنية.
ولئن كانت الكاتبة قد اختارت في نصها السردي هذا كما في روايتها الأولى "إشكل" تجنب "الراوي العليم" وعمدت إلى توزيع وظيفة السرد بالتناوب على أصوات متعددة من داخل النص، لتقديم وجهات نظر متعاكسة فإنها لم تميّز في السجل اللغوي والبلاغي بين هؤلاء الرواة بما جعلهم ينطقون بصوت واحد رغم تفاوت مستوياتهم الذهنية ومواقعهم الاجتماعية في بنية الحكاية، وهو أمر قد يفسّر أحياناً بأنه حيلة سردية للدلالة عن وحدة الشخصيات وتعبيرها بمختلف تجلياتها عن ذات واحدة.
ليس هذا إلا مدخلاً شخصياً لقراءة رواية "منزل بورقيبة" التي تحتمل قراءات متعدّدة، وأياً كان ما تفضي إليه هذه القراءات فمن المؤكد أن إيناس العباسي قد أحكمت الإمساك بخيوط لعبة السّرد وحركتها ببراعة الروائي المقتدر، يظهر ذلك بوضوح في "مسمار تشيخوف" ذلك الدفتر الذي اشترته صوفيا وهي تؤسس متجر الأثاث القديم في شيكاغو من امرأة أميركية عجوز وضعت فيه وصفات لم تجد في عائلتها من يرثها فباعته، هذه اللحظة المأساوية التي تبدو جزئية عابرة في سياق السرد تطفو على السطح من جديد في موضع متقدم، فهذا الدفتر ذاته هو الذي استخدمته صوفيا في مرحلة أخرى من حياتها في ابتكار أكلات مميزة للمطعم الذي تديره مع زوجها حبيب إلياس وهي تنتشله من الإفلاس، بما يجسّد مبدأ أساسياً من مبادئ السّرد أدركته الكاتبة: "كلّ ما في القصّة من تفاصيل قد تبدو ساذجة يسير نحو نهاية معلومة".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.