بعدما أثار الجدل حول صلاح الدين الأيوبي، عاد الكاتب المصري يوسف زيدان ليثير قضية تاريخية جديدة، لكن هذه المرة عن القائد المصري أحمد عرابي.
وأحمد عرابي، هو قائد عسكري، قاد الثورة العرابية ضد الخديوي توفيق التي اندلعت في 9 سبتمبر/أيلول 1881. ويعتبر أحد أوائل الرموز التاريخية للوطنية المصرية في العصر الحديث.
وكان يوسف زيدان قد ظهر مع عمرو أديب في برنامج "كل يوم" المذاع على قناة ON E، وقال إن عرابي لم ير الخديوي ولم يقل له الجملة الشهيرة "لن نستعبد بعد اليوم"، وأن عرابي قد أضاع البلد؛ إذ كان سبباً لاستعمار استمر 70 عاماً، وشكك فيما يتم تلقينه في المدارس بأن الثورة العرابية كان سببها عدم تعيين الضباط المصريين في الجيش.
وكان زيدان قد نشر منشوراً عبر صفحته الشخصية على فيسبوك، أورد فيه شهادة الشيخ محمد عبده، التي قال فيها: "أما عرابي فلم يكن بباله، ولا يهتف به في منامه، أن يطلب إصلاح حكومة أو تغيير رئيسها، فذلك مما كان يكبر على وهمه أن يتعالى إليه، وإنما الذي أحاط بفكره، وملك جميع مقاصده، هو الخوف على مركزه، مع شدة البغضاء لمن كان معه من أمراء الجراكسة".
وإذا أردنا أن نحكم على كلام زيدان تاريخياً، فقد أصاب في نقطة زيف ادعاء عدم تعيين الضباط المصريين بالجيش جزئياً، إلا أنه أخطأ في نقطة نفي مقابلة أحمد عرابي للخديوي توفيق، فقد تقابل الاثنان في قصر عابدين، إلا أن ما حدث مختلف عما يتم تلقينه في المدارس.
وبعيداً عن الرؤية التاريخية التقليدية التي يتم تدريسها في المدارس والجامعات، فقد تكون مذكرات أحمد شفيق باشا أحد أنسب المصادر للتحقق من هذه الوقائع، والذي كان شاهداً لتلك الحقبة، مع الوضع في الاعتبار أنه كان رئيس ديوان الخديوي.
يقول شفيق باشا في كتابه "مذكراتي في نصف قرن" عن المرحلة الأولى للثورة العرابية: "لم تكن الحركة العرابية حركة وطنية عامة في بدء نشأتها ولم يكن لها برنامج معين، ولكنها نشأت عن سخط أفراد قلائل من كبار ضباط الجيش المصري، المتخرجين من تحت السلاح، ألفوا أنفسهم محرومين من الترقي إلى رئاسة الآلايات خلافاً للجراكسة والأتراك".
تعيين الضباط المصريين
وفصل شفيق في كتابه قائلاً: "هذا الظرف هو الذي جعل عرابي ورفاقه يشعرون بالحيف الواقع عليهم، وعلى أمثالهم، من جراء التمييز بين المصريين والجراكسة والأتراك، ولم يكن لعرابي ورفاقه ليستطيعوا التفكير في حالهم مدة حكم إسماعيل؛ لصرامته وشدة بطشه، لكنهم بدأوا يفكرون في ذلك بعهد توفيق؛ لما كانوا يعلمون عنه من روح المسالمة والبعد عن الشدة وحبه للمصريين، بدليل ترقية ثلاثة منهم إلى قيادة الآلايات (ألاي: فرقة عسكرية في المصطلحات العثمانية) في الشهر الأول من توليته، وهم: أحمد بك عرابي، وعلي بك فهمي، وعبد العال بك حلمي".
وأشار شفيق إلى أن هؤلاء الثلاثة قد رأوا عند عثمان رفقي باشا الشركسي ناظر الجهادية، تحيزاً إلى الضباط الجراكسة والأتراك؛ إذ كان يخصهم بالعناية والترقية، وزاد على ذلك قوانين تجعل الترقي إلى رياسة الآلايات المتخرجين في المدارس الحربية فقط، وكان القليل من المصريين يتعلمون فيها، ومن هنا بدأت ما يُعرف بشرارة الثورة العرابية الأولى، التي قرر فيها عرابي ورفاقه التخطيط لعزل عثمان باشا ناظر الجهادية والمدافعة عن حقوق الضباط.
وعن الثورة العرابية الثانية، يقول شفيق: "أراد العرابيون حماية أنفسهم بضم سلطة أخرى إليهم وهي سلطة الرأي العام؛ حتى يكون الأهالي معهم، وقد شجع عرابي ورفاقه الضباط (عقب تحقيقهم المطالب الأولى)، العمل على تحويل حركتهم إلى حركة وطنية عامة، يؤازرها أقصى عدد مستطاع من المصريين عسكريين وغير عسكريين، حيث اجتمع في منزل عرابي زوار من كل فج وطبقة، من العلماء والأعيان والتجار".
أحمد بك عرابي، وعلي بك فهمي، وعبد العال بك حلمي
مطالب فئوية وشعبية
وبحسب ما أورده شفيق، فإن سبب اندلاع الثورة العرابية الثانية كان طلب بعض الجنود مقابلة الخديوي بعد أن داست عربة لأحد الأجانب زميلاً لهم وقتلته.
اعتبر الخديوي طلبهم جرأة كبيرة من جانبهم، ولأن الجنود كانوا يتبعون لواء عبد العال بك حلمي، قد تم عزله وتولية داود باشا يكن مكانه، لكن الأمر قوبل بالرفض، ومن هنا اشتعلت الأجواء مرة أخرى وبدأ العرابيون في توزيع المنشورات السرية بالبلاد، وبدأ عرابي جمع توكيلات يوقع عليها الأهالي بأن عرابي نائب عن مطالبهم الوطنية، وقد بلغ عدد الموقعين نحو 1600 تقريباً، بحسب شفيق باشا.
وهنا، بدأ التحضير لما عُرف بالمظاهرة العرابية، حيث قال ""يكن في كتابه إنهم سمعوا بالقصر أن زعماء الحركة العرابية قرروا القيام بمظاهرة في قصر عابدين وأفهموا صغار الجنود والضباط أن المقصود بها استعراض عام للجيش أمام الخديوي.
وقبل المظاهرة، أرسل عرابي إلى سفراء الدول، يخبرهم بأن المظاهرة في 9 سبتمبر/أيلول 1881، ليس فيها أدنى تعرض لمصالح الأجانب؛ لأنها تخص مطالب داخلية.
ماذا حدث بين عرابي والخديوي؟
ويوضح شفيق فيما يلي حقيقة ما دار بين الخديوي توفيق وعرابي؛ إذ كتب: "نصح المراقب الإنكليزي سموه (الخديوي توفيق) بألا ينسى أنه مليك البلاد، وتقدّم عرابي راكباً جواده شاهراً سيفه، وخلفه بعض الضباط، فنزل الخديوي إليهم من قصره غير مكترث لما قد يتعرض له من الأخطار، وكان معه السير أوكلاند كلفن المراقب، والمستر كوكسن قنصل إنكلترا، ولم يتبع الخديوي سوى اثنين من عساكر الحرس الخصوصي".
وصاح أحد الحارسين في عرابي قائلاً: "اغمد سيفك وانزل عن جوادك"، فامتثل عرابي قائلاً: "جئنا يا مولاي لنعرض على سموك طلبات الجيش والأمة، فقال الخديوي، وما هي؟ قال: إسقاط النظارة المستبدة وتشكيل مجلس نواب وتنفيذ القوانين العسكرية التي أمرتم بها".
وهنا، يتضح أن عرابي لم يقل الجملة الشهير التي يتم تدريسها في المدارس: "لقد خلقنا الله أحراراً ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً، فوالله الذي لا إله إلا هو لن نورث ولن نستعبد بعد اليوم"، بينما لم يقل الخديوي توفيق جملة "طلبات لا حق لكم فيها، وقد ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا"، ولم تذكر هذه الجمل إلا في مذكرات أحمد عرابي نفسه.
وأورد شفيق ردّ الخديوي على عرابي قائلاً: "كان في إمكانك تقديمها للحكومة، وعند ذلك أشار عليه المستر كلفن أن يعود الخديوي للقصر، وبقي هو يناقش عرابي وينصحه بالانسحاب حتى يتيسر النظر في مطالبه بما يجب من تفكير وروية، فلم يسمع عرابي له قولاً، ولم يقبل نصحاً، فعاد هو وزميله كوكسن إلى الخديوي يشيران عليه بأن الضرورة تقضي بإجابة هذه المطالب، لأنه لا حول ولا قوة لديه".