"عبد القادر الحاوفي، آرثر رامبو، فرجينيا وولف، سيلفيا بلاث"، شعراء وأدباء، ماتوا إما انتحاراً أو جراء المرض، فانتهى بهم الطريق الأدبي إلى ما وصلوا إليه قبل النفَس الأخير في حياتهم، ليتقمص الشاعر الفلسطيني مهيب البرغوثي، (52 عاماً)، حياتهم ومشاعرهم وأعمالهم وخاطبهم في قصائده، وأعاد الحياة لقصصهم وذكراهم، في ديوانه الثالث "مختبر الموت"، الذي صدر مؤخراً.
وعن هذا المختبر، يقول البرغوثي لـ"عربي بوست": "أُعيد إحياء ذكراهم من خلال رصد أعمالهم في قصائدي، لكن أسماءهم ستلفت انتباه القارئ، وسرعان ما سيلجأ إلى موقع البحث جوجل؛ يسأله المزيد عنهم، وأحياناً كثيرة يسألني أنا، ويطلب مني بعضاً من كتبهم؛ ليتعرف عليهم أكثر. وهنا، تبدأ حياتهم بعد الموت".
هم اختاروا الموت، فلماذا أردت إعادتهم للحياة؟
سيلفيا بلاث شاعرة انتحرت، كانت تحب زوجها شاعر البلاط الإنكليزي تيد هيوز، وكانا أهم شعراء المرحلة، وبعد أن تزوجا وأصبح لديهما ابنان، أحب شاعرة أخرى، فشعرت سلفيا بطعنة في كرامتها، وأغلقت باب المطبخ على نفسها وانتحرت بالغاز.
أما فرجينيا وولف، فكانت تعاني الهوس والاضطرابات فانتحرت، وكذلك انتحر الشاعر المغربي عبد القادر الحاوفي، فصار الانتحار وجهة نظر بالحياة بشكل ما، وهو الجريمة العادلة ضد النفس غير العادلة، ونوع من التعري للروح أكثر فجاجة من الموت نفسه، فعندما يقرر الإنسان الانتحار يكون بينه وبين نفسه عارياً تماماً ومتصالحاً مع نفسه، ولكن في داخله نقمة على المجتمع تجعله أكثر جرأة في التوصل إلى حل؛ هو الانتحار.
الموت والخراب في معظم وطننا العربي، فلماذا اخترت دمشق دون غيرها لترصد الموت والخراب؟
دمشق صورة لكل الموت الذي يحدث في العالم العربي، واخترتها لتناقضات المدينة التي كانت موجودة مع الانشقاقات والتطورات السياسية فيها، كما أنها صورة للأخ الذي أصبح ضد أخيه، وللموت الموجود في الطرقات بطريقة مخيفة.
هذا الموت وغرق الأطفال، كانا أكبر مأساة إنسانية مرت علينا، بالإضافة إلى أن تدخّل دول أخرى والمتاجرة في قضية الشعب نفسه، خلقا فواصل كثيرة بين السوريين، وجعلانا نشعر بالموت البارد الذي مرت به مدن سوريا، فأنا تحدثت عن حلب واللاذقية وحمص ودرعا ومخيماتنا كفلسطينيين، ففي دمشق كان المخيم، وفي المخيم أيضاً هناك مليون دمشق.
كيف يتعثر الجنود بجثث أطفال، وينسون أمهاتهم، ويتذكرون فقط أوامر قادتهم؟
كم طفلاً مات بسلاح أبيه؟ فالجندي الذي يقتلني ربما يكون أبي، والجندي هو كل شخص يمكنه قتل الآخر، فكيف له أن يقتل النساء والأطفال، ثم عندما يعود من الحرب، يجلب لأبنائه وزوجته الهدايا!
من يقرأ ديوانك يلاحظ تكرار مفردتَي "الخراب والخطيئة"، في أكثر من قصيدة، بالإضافة إلى اقترانهما معاً، فإلامَ كنت ترمي من تكرار استخدامها؟
الخراب موجود بأرواحنا وتم تأسيس فكرة أن هذا الخراب يجب أن يُزهر، لذلك قال الشاعر الفرنسي آرثر رامبو: "ثمة خراب ضروري"، فالخراب هو الشيء الإنساني الذي ينتهي بوجودك، ويخرج منه بعد كل هذا الدمار ما يحاكمك. وما قصدته هو ذلك الخراب القريب من أرواحنا أكثر.
أما الخطيئة، فهي ولادتنا ثم تعرضنا للضرب -من كل مَن حولنا حتى المعلم في المدرسة- عقاباً على شيء اقترفناه، من دون إصلاح الخطأ الذي وقعنا فيه.
ولن نفيد المجتمع بطلاب معاقين، ولن نؤسس هذا المجتمع على أساس تفوقنا في المدرسة فقط؛ لأن الخطيئة خطيئة البيت ثم المدرسة ثم المجتمع، ثم يصبح الفرد معاقاً. فالمرأة مثلاً، الكائن الذي يقع عليه أكبر ظلم في مجتمعنا، منذ تكون طفلة إلى أن تصبح جدة، حُرم عليها الكثير مما حُلل للرجل.
والمرأة التي لم تتزوج والأرملة والمطلقة تُحرّم عليهن أمور مضاعفة، والخطيئة هي أن ترفس كل هذه الأشياء بقدمها وتخرج خارج إطارها.
"أيها العالم الكلب، صباح الخير"، أي كلب تقصد: الوفي أم أنك قصدت صفة أخرى؟
أي شخص يربي كلباً يعطيه اسماً، ولكن لا يناديه بـ"يا كلب"، لكن الكثير من الأمهات ينادين أبناءهن بلفظ "يا كلب"، وكذلك يفعل الآباء وأصحاب العمل في النداء على المخطئين. ولذلك، فأنا لا أقصد الحيوان في قصيدتي؛ بل أقصد الكلب الإنساني أكثر.
اسم "مختبر الموت" أكثر بشاعة من الموت نفسه، فكيف اخترت الاسم؟
جاء ديوان "مختبر الموت" بعد تجربتين شعريتين: "عتم"، و"كأني أشبهني"، فكانت طباعة ما أكتب من شعر في عام 2005، فترة خروج لأرى العالم جيداً، فهو يجردك من كل شيء حتى من أهميتك. لذلك، هذا الظلم الموجود في العالم ينتقل بينك وبين نفسك رويداً رويداً، إلى أن يبدأ في الاستحواذ على حواسك وإنسانيتك أكثر.
وفي "مختبر الموت"، يوجد تصالح بيني وبين الموت. فوجودي داخله كوجودي داخل أي مدينة أحاول إصلاحها، لذا كان اسم الديوان في البداية "الدليل الشخصي للألم".
لكن، ما يهمني هو التجارب الإنسانية التي اتجهت باتجاه منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، ونسيت الإنسان ككائن بشري، وتعاملت معه، كرأس مال، واستفادت من هذا الإنسان في تجارب كثيرة واستنفدت طاقته، ثم بعد 20 عاماً من العمل يتم الاستغناء عنه، ما دعاني إلى التفكير في أن "الدليل الشخصي للألم" ليس ألمي وإنما ألم الآخرين، ثم قررت تسميته "مختبر للموت"؛ من هول ما رأيت حولي من خراب.
كيف أجريت التجارب في مختبر الموت؟
لم أقصد المختبر الذي تجرى فيه التجارب، وإنما قصدت ما يصفي التجارب التي في داخلك نحو الاتجاه إلى ما هو أكثر إنسانية.
هل وقعت في فخ "مختبر الموت"، أم حاصرك المختبر بإرادتك؟
نعم وقعت في فخه، وسيطرت عليّ شخوص الشعراء الذين استحضرتهم في قصائدي، وتجاربهم التي أعدت إحياءها في ديواني.
ولمن تكتب مزاميرك يا برغوثي؟
أكتب كي أشتمّ نفسي أكثر، وأتحرر من العبق الموجود داخلي، ومن هذا المجتمع الذي يحاول أن يكبلني بكل جوانبه، أكتب كي أبكي وأحب وأمارس كل طقوسي بشكل جيد؛ لأني بحاجة لأن أتصالح مع هذا الكائن الموجود، فكلما اقتربت من "مهيب" أكثر أبتعد عن هذا العالم أكثر.
برأيك، هل كان للشعر الفلسطيني دور في رصد الأحداث منذ الربيع العربي إلى اليوم؟
عندنا من الموت ما يكفي.. الشعر الفلسطيني كان بعيداً نسبياً عما حدث في العالم العربي، فالشعر هو رواية والرواية الرسمية للسلطة، فأسهم في مرحلة وأخفق في مراحل أخرى تبنتها الرواية الرسمية.
هل "مختبر الموت" النهاية والرسالة، أم أن هناك جديداً بعد الخروج من فخ المختبر؟
القصيدة ترتجف من البرد وتموت من الجوع إلا إذا وجدت قلباً دافئاً وروحاً حنوناً، تحاول تجديدها وصنع شيء منها. والآن، أعمل على ديواني الجديد "حقوق موتى محفوظة"؛ لأتصالح مع العالم أكثر، وهي تجربة جديدة في منطقة انتهاء الوفاء للميت، ولا أقصد القريب أو الصديق، وإنما أقصد أسوأ عادات الكون التي تسكن الإنسان.
يذكر أن الديوان يضم 46 قصيدة، رصد من خلالها البرغوثي الكثير؛ كالفجيعة والوجع لموت الأطفال، ولدموع الثكالى وأنينهن، وقام بتأريخ ما وراء الأخبار في النشرات، التي أصبح الموت فيها شيئاً عادياً، لكن صوت وجعها "سُمع" من كلمات قصائده.